اليابان.. زيارة واحدة لا تكفى! - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اليابان.. زيارة واحدة لا تكفى!

نشر فى : الخميس 29 يونيو 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الخميس 29 يونيو 2017 - 10:00 م
كيان وعالم مختلف يتكون من 6800 جزيرة شرق القارة الأسيوية، وعلى الرغم من تشرذم الجزر وتنوع طبيعتها، وامتدادها الطويل من مناطق متاخمة لروسيا الجليدية فى أقصى شمالها، إلى جزر شبه استوائية فى أقصى جنوبها، فإن هوية اليابان مميزة وواضحة، وتقدمها لا يضاهى، وتقاليدها صارمة بصورة تشعرك بأنها جزيرة واحدة مركزية وديكتاتورية. إلا أن اليابان دولة ديمقراطية مستقرة، وعلى الرغم من وجود نظام إمبراطورى عتيد، فإن نظامها السياسى برلمانى بامتياز السيادة فيه فقط لاختيارات الشعب. يلتقى وينصهر وينفصل فى اليابان بوضوح زواج غريب بين أحدث ما يتوصل إليه العقل البشرى من تقدم تكنولوجى مستمر بلا توقف من ناحية، ومن ناحية أخرى حضارة قديمة سمح انعزالها الجغرافى عن بقية العالم أن تحتفظ بتقاليد موروثة لآلاف السنين بصورة يندر وجودها بين شعوب الحضارات القديمة فى عالم اليوم. وتخدم التكنولوجيا اليابانية تقاليد الشعب اليابانى الراسخة والمتوارثة، ولا تتنافس معها.
وعلى الرغم من وجود هوية يابانية واضحة، فإن أقاليم اليابان المختلفة تتمتع بهويات محلية شديدة الخصوصية والتميز. فخلال زيارة لمدينة نارا NARA، العاصمة الأولى لليابان، يشدك أنواع الطعام والمشروبات لن تجدها فى العاصمة طوكيو، ويشدك أيضا انتشار مئات من حيوان الغزال (له قدسية دينية هناك) فى كل مكان من حولك، ويجرم صيد الغزال أو الإضرار به بأى شكل، وهو ما جعله ينتشر بصورة لا تعرفها غيرها من مدن العالم، وأصبح أحد العلامات المميزة للمدينة ويُستغل لجذب المزيد من السياح. وتتميز نارا بمعابدها الأقدم فى اليابان، ويأخذنى ذلك لقضية الأديان فى اليابان. ولا تعرف اليابان الأديان كما نعرفها فى الشرق الأوسط، أو كما تعرفها المجتمعات الغربية. ويمكن تفهم الأديان فى اليابان كمجموعة تقاليد راسخة يُلتزم بها فى العديد من المناسبات كالإنجاب أو الوفاة. والشخص اليابانى يقول عادة «أنا أُولد شنتو، وأموت بوذى»، والشنتو هى ما يمكن أن نطلق عليه عقيدة أغلب اليابانيين، وهى مجموعة معقدة من التقاليد القديمة والممارسات الموروثة، ويؤكد 84% من اليابانيين ممارستهم لبعض الطقوس الشنتوية. وعلى الرغم من ذلك يذكر 71% من اليابانيين أنهم يمارسون عادات وطقوس بوذية أيضا. ووصلت البوذية اليابان قادمة من الصين فى القرن السادس. وعلى الرغم مما سبق، يرى أكثر من 80% من اليابانيين أنهم غير متدنيين ولا ينتمون لأى ديانة، ولا يؤمن 65% منهم بوجود أى رب أو آلهة. وقابلت أحد أهم الكهنة البوذيين هناك، وتحاورنا لما يزيد عن الساعة، وانهال علىّ بأسئلة حول داعش ودرجة إسلاميتها، وسأل عما يمكن له ولغيره من الكهنة البوذيين فعله للتقريب بين داعش وأعدائهم حقنا للدماء! 
***
مساحة اليابان صغيرة تقترب من ثلث مساحة مصر (378 ألف كيلو مربع)، ويسكنها 128 مليون نسمة. وتعانى اليابان من قلة عدد مواليدها، ويتناقص عدد سكانها سنويا مع ارتفاع مستوى الرعاية الصحية وانخفاض نسبة المواليد. ويوجد باليابان أكثر من 50 ألف شخص تعدى عمرهم المائة عام، ومتوسط عمر الشخص اليابانى 46 عاما فى حين يبلغ مثيله فى مصر 25 عاما وفى الولايات المتحدة 37 عاما. وتعرف اليابان أزمة فى هيكل تركيبتها السكانية خاصة مع عدم انفتاحها على فكرة السماح باستقبال مهاجرين من الخارج. ويرتبط بهذه الأزمة انتشار واسع لظاهرة عدم الزواج، والهروب من الوحدة عن طريق العمل الشاق ولساعات طويلة، ولاحتساء الكثير من الخمور. ولاحظت خلال زيارتى القصيرة أن اليابانيين يقومون بكل شىء بكفاءة منقطعة النظير، العمل بالطبع، وكذلك شرب الكحوليات. فى الولايات المتحدة لا تجد الكثير من الحانات مكتظة بزبائن خلال أيام العمل الأسبوعية، أما فى اليابان فتمتلئ الحانات بموظفين وعمال حتى ساعات متأخرة من الليل، ويقولون لك لا نفعل شيئا آخر سوى العمل ثم الشرب (خاصة لمن ليس لديه عائلة). ويرتبط بذلك ملاحظة عادة نوم الكثير من الموظفين خلال ساعات عملهم (قيلولة)، وذلك دون تعرضهم للمساءلة الجادة، حيث يعتبر النوم لدقائق خلال العمل من دلالات الإخلاص والتفانى الوظيفى.
النظافة فى اليابان شىء لا تخطئه العين، حتى وإن كنت قادما من أمريكا أو أوروبا، وأعتقد أن السر فى ذلك يرجع لنقطتين مترابطتين. الأولى أن عامل النظافة فى اليابان يسمى مهندسا صحيا يحصل على راتب يماثل ما يحصل عليه موظف البنك أو عامل المصنع بمتوسط ما بين 5 و8 آلاف دولار أمريكى شهريا. ثانيا، لا تعرف معظم المدارس اليابانية وظيفة عمال النظافة، فالتلاميذ والطلاب والمدرسون هم من يقومون بأعمال النظافة فى مدارسهم لترسيخ القيم الحسنة المتعلقة بالنظافة وأداء الواجب وتقدير الآخر فى تعاملاتهم اليومية. من هنا البلد تتمتع بنظافة غير معهودة، ويحترم المجتمع بشدة وظيفة من يقومون بأعمال النظافة. ويرتبط بهذا الاحترام للمهن الأخرى عدم وجود البقشيش فى أى من المعاملات فى اليابان، على العكس من الحال عندنا فى مصر أو فى أمريكا. ويُعتبر البقشيش نوعا من الرشوة سواء كان مقدما لعمال المطاعم أو عمال الفنادق أو سائقى سيارات الأجرة أو غيرهم. وإذا بادرت وقدمت بقشيشا لأى شخص، سيتم اعتبارك شخصا وقحا تتعمد إهانته، حيث أن المتفق عليه أن الخدمة تقدم لك، وتدفع فيها ومقابلها قيمة مالية فى معادلة متوازنة وعادلة للطرفين، وعليه فأى مال إضافى يعتبر إهانة كبيرة.
***
قمت مؤخرا بزيارة هى الأولى لليابان استغرقت ثمانية أيام، وسافرت خلالها لمدن ثلاث، كيوتو (العاصمة التاريخية لأكثر من ألف عام)، ومدينة نارا (العاصمة الأولى فى تاريخ اليابان لـ 75 عاما، وهى نقطة النهاية الشرقية لطريق الحرير)، ثم اختتمت بزيارة العاصمة الحالية طوكيو (منذ 1868)، وعلى الرغم من الاستمتاع غير المحدود بكل ساعة فى هذه الزيارة، فإنه من المؤكد أن زيارة واحدة لليابان لا تكفى.

 

محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات