أحلام رفيق - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام رفيق

نشر فى : الجمعة 30 نوفمبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الجمعة 30 نوفمبر 2018 - 11:35 م

كان الليلُ وشيكًا والطقسُ مُنعشًا ولطيفًا؛ لا برودة تخترقُ العظمَ، ولا سخونةٌ تكتم الأنفاسَ أو تخنق الصدرَ، والناسُ في حال الخفَّة والائتناس، يتبادلون الحديثَ ترفًا، ويقرضون الشعرَ فيما تحقق مِن إنجاز، والعزيمةُ في أفئدتِهم الطربة؛ نابتةٌ مُترعرعة.
***
مَرَّ بالمقهى وقد أنهى ما عليه مِن التزامات، عازمًا أن يقضي هناك بعضَ الوقت، قبل أن تدرك أهدابَه حبالُ النوم. جلس على المقعد متأوهًا، ومدَّ ساقه فرفعها، آمِلًا أن يتحسن وضعها، وأن يصبح غدًا؛ فيجدها قد تخفَّفَت مِن تورمها وأوجاعها.
***
لم يكُن الذهابُ والإيابُ ليتعباه، لولا طريقه المَزروع بالفِخاخ؛ مِن مُبتدأه إلى مُنتهاه. يفتح بابَ منزلِه ويخطو ببطءٍ، يتكئ بكفِّه على الدرابزين، ويمسك بالآخر رفيقتَه الدائمة؛ عصا لا يستغنى عنها ولا يتحرك دونها. يهبط الدَرجَ بحذرٍ، يصل مُعظمَ الأوقاتِ بسلام، ويخرج مِن العمارة التي يقطنها مُتفائلًا مُستبشرًا.
***
بجهامةٍ؛ تستقبله أرصفةٌ عاليةٌ لا قِبل له بصعودها، يقف أمامها مُستسلمًا؛ ينتظر مَن يمنّ عليه بجذبةِ يدٍ، ومَن يساعده في تسلقها وارتقائها. تمر عليه بعض الأحيان دقائقٌ قاسية، وفي أحيانٍ أخرى تأتي النجدةُ سريعةٌ حانية، لتجبُر خاطره وتطيّبه. لا يسلم الأمر مرات مِن الأذى؛ فقد ينثني مفصلُ قدمِه مع النتوءات والانبعاجات، وقد يتعثر فيما انغرس بالأرض مِن مخلفات؛ على تباين أوصافها ومُسمياتها، لا فارق بين شارع أسفلتي، أو رصيف حجري، أو حتى حديقة. أفلح مع التدريب اليومي في تجنب بعض العراقيل، لكنه ما انفك يسقط في المستجدات منها سقوطًا مروعًا؛ تئن له الساقُ العليلة، وتندب مِن وخزات الألم حظها.
***

يصلُ المحطة لاهثًا، وقد بذل مِن الجهد ما بذل، يلتقط أنفاسَه مِن مغامرة عبور الشارع إلى الجهة المقابلة، ويصلح ما فسدَ خلال مَسيرته العامرة. يفرد ظهره جاعلًا عصاه ظاهرة للعيان؛ لعلَّ السائقَ يلمحها عن بُعد، فيترفَّق به، ويتمهَّل مَشفقًا، أو يقرر في لحظة صفاءٍ نادرة أن يكبح جماحَ الحافلة، وأن يوقفها؛ مُعطيًا رفيقَ فرصتَه في الركوب، كاملةً مُتكاملة.
***
لم تكُن ساقه التي وُلِد بها في غير استواء؛ بمصدر حزنٍ أو تعاسةٍ واستياء، لكنها استحالت أزمةً مُعقدة مع انخراطه في الدنيا، واختلاطه بالناس، ومع احتفاظه بتلك التطلعات التي لم تفتر على مر السنوات؛ أن يمارس الحياة العادية، كإنسان عادي، في مجتمع عادي، لا يعاديه أحد أو يهينه، ولا تخزله المُعطيات في مُحيطه، فقد عانى رفيق ما لا يحتمل ولا يطيق، مع احتياجه للتنقُّل مِن البيت إلى المدرسة، وتكرر الوضع في سنوات الجامعة، ولا تزال معاناته متواصلة؛ في رحلته اليومية إلى الشركة التي التحق بها؛ بعد فيض إلحاح وتوسلات.
***
كانت شاشة المقهى الصغيرة، تنقل لقطة بارزة، بها بشر في مثل جسمه ورسمه؛ يعانون حركة عسيرة مجهدة، لا ذنب لهم فيها، ولا حيلة بيدهم تجاهها. بعضهم يستخدم مقعدًا طبيًا مجهزًا، والبعض الآخر وقوف؛ يستند إلى عكازات، تعين على التحمل والثبات، ويرسم على وجهه ابتسامة واسعة؛ إلى أن يلتقط المصورون الصورة، من أبهى زواياها.
***
تابع رفيق اللقطات المتواترة، رافعًا حاجبيه، منبهرًا بمحتوياتها؛ لم يكن قادرًا على استيعاب ما يقال، بأنه كما يؤكد المسئولون؛ سعيد بما يقدمون، غاية في الامتنان. أشار واحد من جيران المقهى، مطلقًا بلا تحسب ضحكة: "لما لم يأخذوك معهم في الصورة؟".
***
أطرق رفيق برأسه، وتطلع إلى ساقه وقدمه؛ هذه الحركة المقيدة المحصورة، لا تستوعب طموحاته الواسعة الأصيلة، ولا تتناسب وأحلامه المشروعة. يؤمن أنه مثل الباقين إنسان، وأن توفير احتياجاته حقٌّ لا منحة؛ ليست هناك شروط كي يلقى المرء ما يستحق مِن خدمات، وكي يعامله الآخرون بما وجب من احترام.
***

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات