(قانون صناعة الدهشة) - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 11:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(قانون صناعة الدهشة)

نشر فى : الإثنين 31 مايو 2010 - 10:04 ص | آخر تحديث : الإثنين 31 مايو 2010 - 10:04 ص

 عندما نبدأ فى قراءة سطر ما من قصيدة، فإن خبراتنا السابقة بالشعر تدفع عقلنا إلى توقع مجموعة نهايات ممكنة له. وتكمن عبقرية المبدع الحقيقى فى قدرته على تجاوز أفق التوقع لدى المتلقى وإدهاشه بصياغات لم يكن يتوقعها.

وقد كان الشاعر أمل دنقل مولعا بتحطيم أفق التوقع لدى المتلقى، حيث كان يعمد إلى صياغات النصوص الدينية ويعيد توظيفها توظيفا فنيا صادما للمتلقى بمخالفته لظاهر اللفظ فى النص المقدس.

وقد بدأ هذا الاتجاه لدى أمل فى قصيدة «كلمات سبارتكوس الأخيرة» التى بدأها بقوله:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال «لا» فى وجه من قالوا «نعم»
من علم الإنسان تمزيق العدم

وبالعودة إلى إنجيل لوقا الذى يقول: «المجد لله فى الأعالى»، وإلى قوله تعالى فى سورة البقرة «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين»، فإن ظاهر النص الشعرى قد يوحى بعصيان الله ومعارضة الملائكة، لكن سياق القصيدة الذى يرد فيه الخطاب على لسان إنسان دعا الله إلى تكريمه، وأن هذا الإنسان ــ سبارتكوس ــ عبدٌ مطالبٌ بالسجود لقيصر وقد دعا الله إلى عتق الرقاب، فإن الكفر فى هذا السياق ينسب إلى قيصر الحاكم المتغطرس الذى رفع معارضته إلى مستوى العصيان الإلهى، وليس إلى الشاعر الذى ارتدى قناع سبارتكوس محرر العبيد.

وعندما يقول الشاعر فى القصيدة نفسها:
والودعاء الطيبون
هم الذين يرثون الأرض فى نهاية المدى
لأنهم لا يشنقون!

فالعودة إلى إنجيل متى الذى يقول: «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض»، قد تثير فى ظاهرها شبهة التعارض الساخر، لكن الحقيقة غير هذا تماما. فنص الإنجيل يتحدث عن توريث الأرض للمؤمنين بعد بعثهم، أما القصيدة فتتحدث عن توريث الأرض فى الحياة للخانعين الخاضعين الموالين لقيصر الذى يرفع نفسه إلى مصاف الآلهة بوصفه مالكا حق المنح والمنع للحياة نفسها فى لحظة شنقه لسبارتكوس.

وقد تجلت قمة هذا التوظيف الصادم لصياغات الكتاب المقدس فى ديوان أمل «العهد الآتى» فى مقابل العهدين القديم والجديد، وقد صدره الشاعر بقصيدة عنوانها «صلاة» يقول فى بدايتها:
أبانا الذى فى المباحثِ. نحن رعاياكَ.
باقٍ لك الجبروتُ. وباقٍ لنا الملكوتُ.
وباقٍ لمن تحرس الرهبوتْ.

فإن هذه القصيدة تذكرنا فى ظاهر لفظها بمفتتح «الصلاة الربانية»،حيث قال السيد المسيح: «متى صليتم فقولوا: أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما فى السماء كذلك على الأرض».

ولا تفهم هذه القصيدة إلا فى سياق قصيدة سبارتكوس السابقة، والتى يقول فيها:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد

فإذا كان العدل لم يتحقق على الأرض فى العهد السابق وكذلك فى العهد الآتى، فإن الملكوت فى قصيدة «صلاة» باقٍ للودعاء الطيبين الذين سوف يرثون الأرض فى نهاية العالم، وبهذا تكون القصيدة متفقة تماما مع جوهر العقيدة المسيحية.

أما قمة التوظيف الصادم للصياغة القرآنية، فيتمثل فى قوله بقصيدة «الخيول»:
اركضى أو قِفِى الآن، أيتها الخيل:
لست المغيرات صبحا
ولا العاديات ــ كما قيل ــ ضبحا
ولا خضرة فى طريقك تمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به، يتنحى
وها هى كوكبة الحرس الملكى
تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات
بدق الطبول

وتعارض ظاهر اللفظ فى القصيدة مع سورة «العاديات» لا يحتاج إلى شرح، لكن سياق القصيدة يثبت عكس هذا تماما، حيث يقول الشاعر فى بدايتها:
الفتوحات ــ فى الأرض ــ مكتوبة بدماء الخيول
وحدود الممالك. رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدل يميل مع السيف حيث يميل!

حيث يقر الشاعر بدور الخيول فى تحقيق المجد العربى القديم عبر الفتوحات الإسلامية، لكنه يقارن الواقع العربى المتراجع بالماضى العربى المزدهر، مستخدما رمزية الخيل التى صارت جسدا متهالكا تستحيل عودة الروح له ولو بدق الطبول، لأن قيمة الخيول لا تكتمل إلا بقيمة فرسانها، حيث يقول:
والخيول التى انحدرت نحو هوة نسيانها

حملت معها جيل فرسانها
تركت خلفها: دمعة الدم الأبدى
وأشباح خيل، وأشباه فرسان
ومشاة يسيرون ــ حتى النهاية ــ تحت ظلال الهوان
ولا شك فى أن سياق القصيدة يمجد الحضارة العربية الإسلامية القديمة، ويتباكى على تراجعها متمنيا عودة ازدهارها مرة أخرى.

أما قمة توظيف أمل دنقل الصادم لصياغة الحديث الشريف، فتتمثل فى قوله بقصيدة «رسوم فى بهو عربى»:
(الناس سواسية ــ فى الذل ــ كأسنان المشط
ينكسرون ـ كأسنان المشط ــ فى لحية شيخ النفط!)

فالعودة إلى رواية الديلمى للحديث الشريف الذى يقول «الناس مستوون كأسنان المشط ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله» قد تثير فى ظاهرها شبهة التعارض الساخر، لكن الحقيقة غير هذا تماما، لأن الشاعر يريد عبر توظيفه الجديد تأكيد أن الفضل بين الرجال فى الإسلام يجب أن يقاس بالتقوى، وليس بما يملكونه من أموال يعيدون بها البشرية إلى ظلام العبودية مرة أخرى.

على أن الدهشة الفنية فى النصوص الشعرية لا تتحقق فقط عبر إتيان الشاعر بكلمات مفاجئة وصادمة للمتلقى فقط، بل يمكن أن تتحقق أيضا بتكرار الشاعر المبالغ فيه للكلمات ذاتها، لأن المتلقى لا يتوقع هذا التكرار فيكون مدهشا له فى سياقه، وإلى هذا النمط التكرارى المدهش تنحاز شعرية محمود درويش.

وقد بدأ درويش هذا الانحياز مبكرا حيث نلمح بداياته فى قصيدة «إلى أمى» 1966، التى يقول فى مطلعها:
أحن إلى خبز أمى
وقهوة أمى
ولمسة أمى
وتكبر فىَّ الطفولة
يوما على صدر يوم
وأعشق عمرى لأنى
إذا مت، أخجل من دمع أمى!

فالشاعر ينهى السطور الثلاثة الأولى من المقطع بتكرار كلمة «أمى»، التى يتأرجح معناها المدهش بين الحسى والمعنوى وفقا لنوع المضاف، قبل أن يختمه بتكرار رابع فى نهاية السطر الأخير يجعلها الكلمة المهيمنة على المقطع لفظيا ومعنويا وبنائيا.

وقد انتقل درويش بعد ذلك إلى نمط آخر من التكرار المدهش يمثله قوله فى قصيدة الأرض»1975:
يغنى المغنى
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغنى يغنى
ويستجوبونه: لماذا تغنى؟
يرد عليهم: لأنى أغنى

حيث يولد وصف الأشياء بذاتها دهشة فى نفس المتلقى، تؤكد لديه سياق الاعتياد الطبيعى لمشاغل بريئة لا يمكن أن تؤدى إلى الاستجواب.

وكلما تقدم الزمن بدرويش أوغل فى الاستخدام المتنوع لهذه التقنية، حيث يقول فى مفتتح قصيدة «سنخرج» 1986:
سنخرج،
قلنا: سنخرج،
قلنا لكم: سوف نخرج منا قليلا،
سنخرج منا إلى هامشٍ أبيض
نتأمل معنى الدخول ومعنى الخروج
سنخرج للتو

فالقصيدة تستخدم معظم الصيغ الصرفية الممكنة لمادة «خرج» للإيحاء للمتلقى باقتناع الفلسطينيين بالخروج من أرضهم، ثم يختم الشاعر قصيدته بمفارقة مدوية فى دهشتها قائلا:
قلنا: سنخرج حين سندخل.

حيث يلعب التكرار هنا دورا بنائيا متميزا يتمثل فى التمهيد للمفارقة المدهشة وتعميق حدتها، لتنقلب دلالة القصيدة كلها بآخر كلمة فيها، ويتحول زعم الخروج إلى تشبث مستميت باستعادة الأرض.

وقد يأتى التكرار المدهش لدى درويش فى ختام النص دون اعتماد على بنية المفارقة، حيث يقول فى ختام قصيدة «هذا خريفى كله»:
سلام للذين أحبهم عبثا
سلام للذين يضيئهم جرحى
سلام للهواءِ..وللهواءْ

وأظن أن القارئ هنا قد وصل إلى أقصى حدود الدهشة عبر التكرار، لأن آخر ما كان يمكن أن يتوقع وروده فى نهاية النص بعد واو العطف هو الكلمة نفسها.

فكما قال بارت فى كتابه «لذة النص»: «الكلمة تستطيع أن تكون منتجة للدهشة الفنية بشرطين متعارضين ومتجاوزين للحدود: إذا جاءت على حين غرة لذيذة بجدتها، أو على العكس تماما، إذا ما بولغ فى تكرارها»، ورحم الله الشاعرين أمل دنقل ومحمود درويش، فقد كان كل منهما علما فى خصوصيته المتميزة فى صناعة الدهشة.

التعليقات