الزمن الجميل - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الزمن الجميل

نشر فى : الأربعاء 30 يوليه 2014 - 9:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 يوليه 2014 - 9:35 ص

رسم كاريكاتورى متميز فى مجلة نيويوركر الأمريكية ترك عندى انطباعات عدة. يظهر فى الرسم رجلان يرتدى كل منهما بالكاد ما يغطى أقل القليل من جسديهما، يجلسان على حجرين وسط صحراء جرداء باستثناء نخلة بدا أنهما يستمتعان بظلها المتواضع وربما ببعض تمرها من حين لآخر. الرجلان سعيدان. الابتسامة تعلو وجه كل منهما، والسلام والهناء يشعان من عيونهما.

يقول أحد الرجلين البدائيين للآخر ما معناه، ها نحن فى عصرنا الحجرى نأكل طعاما طبيعيا استخلصناه من نباتات لم تدعمها أسمدة كيماوية وخال من أى إضافات اصطناعية، ونتنفس هواء نقيا لا يلوثه ثانى أكسيد الكربون ولا عوادم سيارات ولا دخان سجاير وأراجيل، ونشرب مياها نقية من شلالات وقنوات لم تمر على مصانع أسمدة وكيماويات. ها نحن نستمتع بالسكون والهدوء لا تعكرهما أصوات قبيحة تصدر عن دراجات بخارية أو مكبرات صوت أو صافرات سيارات شرطة. ولكل فرد فينا مساحة كافية يتحرك فيها دون أن يصطدم بآخرين أو يضطر إلى الوقوف فى طابور انتظار ليدلى بصوت يندم عليه أو يمشى فى مظاهرة احتجاجا. ها نحن نعيش حياة لا تواجهنا فيها معضلة اختيار أو مبرر للاحتجاج. مشكلاتنا معروفة ومتوقعة ونادرة ونجيد التعامل معها أولا بأول، لا نؤجلها كما أننا لا نستعجل حلها. يتوقف إنسان العصر الحجرى عن حديث السعادة فى حياة مثالية لم تتلوث، ليقول « أسباب سعادتنا لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك مازلنا نموت قبل أن يتجاوز الواحد منا الثلاثين من عمره».

•••

رحت إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، الجهة الوحيدة بخلاف جوجل والفيس بوك التى تتجمع فيها كل المعلومات المتعلقة بالإنسان فى أى عصر وأى مكان. رحت إليها لأتأكد من وثائقها من دقة المعلومة التى جاءت فى الرسم الكاريكاتورى عن قصر عمر الإنسان فى عصره الحجرى ولأعرف متوسط العمر فى عصرنا. تقول الإحصاءات الرسمية التى تحتفظ بها الوكالة المرموقة أن متوسط عمر الإنسان المعاصر يتراوح الآن، فى عام 2014، بين حد أدنى هو 15.1 سنة للمواطن فى دولة النيجر، و15.5 فى أوغندا، و16 فى مالى، و16.3 فى ملاوى، وحد أقصى 51.1 فى إمارة موناكو و46.1 فى ألمانيا واليابان، و44.5 فى إيطاليا و41.7 فى كندا، وبينهما متوسطات عديدة مثل 29.3 فى لبنان، و28.9 فى الكويت،،26.4 فى السعودية، و25.1 فى مصر.

بحسبة بسيطة يتضح أنه فى الزمن الأجمل زمن البيئة غير الملوثة والوفرة وراحة البال لم يتجاوز متوسط عمر الانسان 15 سنة، وهو ما يعادل تقريبا متوسط عمر الإنسان المعاصر فى معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء. يتضح أيضا أن أقصى ما يطمح إليه سكان هذه البلاد وغيرهم ومنهم سكان الشرق الأوسط، أن يصل متوسط أعمارهم إلى الأربعين، مثلهم مثل الكنديين والسويسريين والإيطاليين.

بحسبة بسيطة أخرى يتضح أن أكثر من 2000 مليون شخص فى العالم، أى حوالى ثلث البشر، يعيشون الآن فى حال أسوأ كثيرا من الحال التى عاش فيها الإنسان البدائى. أقل ما فيها أن البدائى الأول لم يكن يعرف أن هناك، على بعد أمتار أو آلاف الأميال، يعيش بشر مثله حياة رغدة وكأنهم جنس آخر أو يسكنون كوكبا آخر. لديهم الوفرة ومستفيدون من التقدم التكنولوجى ويحظون بالرعاية الصحية والتعليم الجيد. المثير فى الموضوع هو أن «البدائى المعاصر» الذى يعيش فى فقر شديد محروما من معظم إنجازات ومتع الزمن الجديد، ومحروما فى الوقت نفسه من البيئة النظيفة والحياة الحرة والهواء غير الملوث، تلك البيئة التى كان يتمتع بها البدائى الأول، يعيش هذا البدائى المعاصر عمرا أطول، رغم كل ما يتردد عن أخطار تلوث البيئة والأمراض التى تتسبب فيها..

•••

أى زمن نقصد حين نقول إننا نشعر بحنين إلى الزمن الجميل؟ لا أظن أن أيام المصريين خلال قرون عديدة من حكم المماليك كانت أزمنة جميلة يمكن أن نتمنى العيش فيها. بل، ولا أظن، أن أغلب أيام المصريين فى ظل آلاف السنين من حكم الفراعنة كانت زمنا جميلا للأكثرية العظمى من المصريين. نحن، أبناء الجيل الذى انتمى إليه، حين نقول إننا نشعر بحنين إلى زمن جميل، لا شك نقصد لحظة أو لحظات بعينها ولا نقصد زمنا. تردد فى الوثائق والأخبار أن جمهرة المصريين لم يكونوا فى حال عز وسعادة فى الزمن الخديوى أو الزمن الملكى. قرأت، فى زمنى الجميل، عن أن أغلب فقراء العصر «الليبرالى» كانوا اسوأ حالا من أغلب فقراء زمانى. أنا شخصيا لم أسمع فلاحا عجوزا يعبر عن شوقه وحنينه إلى سنوات وقع فيها تجنيده، أو يتحدث بالخير عن تعاملاته بممثلى الدولة شرطة كانوا أم محصلى ضرائب. ولكننى سمعت فلاحين كثيرين يحنون إلى لحظة أو لحظات مؤانسة فى العصارى كانوا يقضونها مع رفاق الأرض، ويحنون إلى مواكب أعراس وليالى المولد. يحنون إلى لحظات ومناسبات لا أكثر.

ما أحلاها لحظة عشناها ذات يوم ونستدعيها من حين لآخر لتخفف عنا صعاب الحياة المعاصرة ومشاقها، ولكن ما أسوأها فكرة أن نعود إلى زمن كامل بعينه ونحاول أن نعيشه. عشنا زمنا بحلوه ومره، كانت تجربة رائعة أو خائبة وانتهت ولا يجوز التفكير فى استعادتها، فلا الزمن يعود لمجتر ولا نحن نصلح لزمن انقضى.

•••

أعود إلى الرسم الكاريكاتورى، لأسأل إن كان بيننا من لا يزال يصدق أن الفقراء الذين يزدادون كل يوم فقرا وعددا، مستعدون لتلقى رسائل إعلامية تدعوهم إلى وضع قضية تلوث البيئة فى صدارة اهتماماتهم. واقع الحال يقول إنه لا الفقراء ولا رجال الأعمال يهتمون بهذه القضية.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي