نشر مركز المستقبل للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتب إيهاب خليفة، تناول فيه أن الثورة القادمة من الذكاء الاصطناعى لن تلقى بظلالها فقط على الصناعة والتعليم والصحة، بل ستشمل المساهمة فى تحسين عملية اتخاذ القرار سواء على مستوى الأفراد أو الشركات أو حتى الحكومات... نعرض من المقال ما يلى.
تعانى المجتمعات النامية من مشكلات عديدة، ليس أقلها الفقر والمرض ونقص الكفاءات وقلة الموارد، والتى يترتب عليها بالضرورة دخول بعض الدول فى حالة من الفوضى والصراع الداخلى قد ترتقى إلى حالة الحرب الأهلية، وإذا رجعنا إلى أسباب هذا الانهيار فإنها تكمن فى مثلث التعليم والصحة والاقتصاد، الركائز الضرورية للنهوض بالأمم والمجتمعات، والتى تضمن على الأقل وجود حياة مقبولة للأفراد تجنبهم الانجراف إلى الصراع حول الموارد.
ولكن قد يسهم الذكاء الاصطناعى فى حل المشكلات التقليدية التى تواجهها ثلاثية التنمية هذه، ورغم أن أول ما يتبادر للذهن هو كيف لهذه المجتمعات القاحلة أن تطور نظم ذكاء اصطناعى يحقق تنميتها فإنه يجب التوضيح أن الأمر ليس بهذه الصورة، بل يكفى تقديم هذه النظم الذكية للمجتمعات الفقيرة فى شكل معونات أو منح أو حتى قروض تستخدمها فى تحقيق تنميتها مثلما يتم تقديم الغذاء لها، أما الدول الأقل تقدما فإنها تستطيع أن تستغل الفرصة التاريخية التى يقدمها الذكاء الاصطناعى فى إعادة تموضعها على المسار الصحيح من جديد.
مشكلات الاقتصاد
فى تدوينته المهمة حول مستقبل الذكاء الاصطناعى قال بيل جيتس: «فى أهميته الأساسية، لا يختلف تطوير الذكاء الاصطناعى عن إنشاء المعالج الدقيق «الميكروبروسيسور»، والكمبيوتر الشخصى، والإنترنت، والهاتف المحمول. سيغير هذا النظام طريقة عمل الناس، وتعلمهم، وسفرهم، وحصولهم على الرعاية الصحية، وتواصلهم مع بعضهم بعضا. صناعات بأسرها ستعيد توجيه أعمالها على أساسه. ستتميز هذه الشركة عن تلك بحسب أوجه استخداماته الجيدة»، ولذلك فإن للذكاء الاصطناعى استخدامات عديدة خاصة للتغلب على المشكلات التقليدية للمجتمعات النامية، كمشكلات التعليم والفقر والمرض والفساد، بخلاف الفرص الواعدة التى تظهر على مستوى جميع الصناعات.
فجميع الصناعات دون استثناء سوف تمر بمرحلة إعادة هيكلة، بفعل التطور الكبير فى نظم الذكاء الاصطناعى والتقنيات الذكية التى أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة، وهى فرصة لدول الإقليم، أن تعيد النظر فى استراتيجياتها التنموية والصناعية، وأن تبدأ فى إدخال الذكاء الاصطناعى فى مكوناتها الصناعية والاقتصادية، لكى تحقق قيمة مضافة تضمن بها موضع قدم فى الأسواق العالمية فى المستقبل القريب.
فهناك «لحظة تاريخية» فارقة عادت من جديد وبدأت تلوح فى الأفق، قد تغير من مسار الدول الفقيرة والنامية وتجعلها فى مكانة أفضل بكثير من مكانتها الحالية إذا أحسنت الاستفادة منها، تتمثل فى امتلاك زمام المبادرة واللحاق بالثورة الصناعية الرابعة والاستفادة من مكتسباتها الكبيرة خاصة نظم الذكاء الاصطناعى التى يتم التعويل عليها كثيرا فى النهوض بالأمم حتى المتقدمة منها.
مشكلات التعليم
استطرد بيل جيتس فى تدوينته قائلا: «رأيت عرضين تكنولوجيين تركا لدى شعورا بالذهول لكونهما ينطويان على إمكانات ثورية. تعود المرة الأولى إلى 1980، عندما تعرفت إلى واجهة المستخدم الرسومية.. والمرة الثانية عند الاجتماع بفريق شركة أوبن إيه آى « «OpenAI» ذلك الفريق الذى طور أحد التطبيقات الثورية فى مجال الذكاء الاصطناعى وهو «ChatGPT» تشات جى بى تى».
وذلك لأن النسخة الأولية من «تشات جى بى تى» التى صدرت فى نوفمبر 2022 أحدثت ضجة كبيرة داخل الأوساط المختلفة، نظرا لقدراته الفائقة على توليد نصوص تحاكى طريقة البشر تماما، وتوفير إجابات متعددة لتساؤلات البشر فى الموضوعات المختلفة، سواء كانت صحية أو اقتصادية أو سياسية أو معلومات عامة أو تأليف القصص والروايات وكتابة المقالات والأبحاث وتلخيص الكتب وعمل محاضر الاجتماعات وغيرها من الاستخدامات البحثية والتعليمية، فظهر وكأنه مدرس شخصى لكل تلميذ ومكتبة متنقلة لكل باحث وعقل صناعى متحرك بين إصبعى كل إنسان.
لم تكد تمر عدة شهور حتى صدرت النسخة الأكثر تطورا منه وهى «ChatGPTــ4» فى مارس 2023 وتتميز بكونها أكثر دقة وكفاءة من النسخة السابقة، كما أنها قادرة ليس فقط على الكتابة بل على تصميم وإنتاج الصور والفيديوهات وكتابة أكواد الكمبيوتر المعقدة وتصميم برامج وتطبيقات وألعاب حاسوبية، وغيرها من المهام التى كانت فى الماضى القريب حكرا على البشر، كل ذلك هو فقط مجرد بداية لما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعى فى مجال واحد فقط وهو المهارات التعليمية.
وبالتالى قد نتغلب فى المستقبل القريب على مشكلات عدم كفاءة بعض المدرسين من خلال استبدالهم بنظم ذكاء اصطناعى قادرة على تنمية وصقل مهارات الأطفال والطلاب، ونتغلب على صعوبة عدم توافر أعداد كافية من المدرسين لتدريس المواد، فيستطيع روبوت واحد فقط تدريس جميع العلوم داخل الفصل دون كللٍ أو مللٍ أو خطأٍ أو نسيان، بل قد يتم توفير نسخ صغيرة من هذه الروبوتات أو النظم الذكية تقوم بتعليم كبار السن والأميين وغيرهم ممن لا يجيدون مهارات القراءة والكتابة فى بيوتهم أو فى النوادى والطرقات، فتصبح عملية التعليم أسهل وأيسر.
الأمر لا ينطبق على المدارس فقط، بل كل ما يتعلق بالتعليم والتعلم، يشمل ذلك التعليم الجامعى وما بعده، والتعليم التقنى والحرِفى، والتعليم التطبيقى والنظرى أيضا، بل حتى الدورات التدريبية ومهارات تطوير الذات وغيرها من أنواع المعرفة البشرية، يمكن تطويرها وتطويعها عبر نظم ذكية لكى تقدم تجربة تعليم أكثر ابتكارا.
مشكلات الصحة
إلى جانب التعليم يمكن أيضا تحسين الخدمات الصحية المقدمة للأفراد من خلال إدارة بيانات الرعاية الصحية وتحليل المعلومات الصحية الخاصة بملف المريض وربطها بمدى تدهور أو تحسن حالته الصحية، والمساعدة فى تشخيص الأمراض المزمنة والخبيثة، وإجراء العمليات الجراحية الدقيقة بمساعدة نظم الذكاء الاصطناعى مثل الأذرع الآلية والآلات الذكية القادرة على رصد موضع المرض أو الورم بدقة شديدة للغاية واستهداف الأنسجة المعطوبة فقط دون السليمة.
كما يمكن أيضا استخدام نظم الذكاء الاصطناعى فى تقديم لقاحات أكثر فاعلية وكفاءة، وتطوير أدوية وعقارات بصورة أسرع من ذى قبل، أو حتى تطوير أدوية شخصية، أى تلائم حالة كل مريض على حدة، وليس علاجا واحدا لجميع الأفراد، وذلك من خلال تحليل البيانات الجينية للشخص وربطها بالملف الطبى الخاص به للخروج بأفضل تركيبة دوائية تلائم حالته الصحية.
فضلا عن القدرة على تقديم الرعاية الصحية فى المناطق النائية التى يصعب توفير أطباء من تخصصات متعددة فيها، فيمكن للنُظم الذكية أن تساعد فى عمل تشخيص سريع للأفراد وتقدير حالة خطورتهم حتى تلقى الرعاية المناسبة لهم، أو أن يقوم المرضى باستخدام أجهزة طبية ذكية تساعدهم فى تقدير حالتهم الصحية وتقدم لهم توصيات عما يجب فعله، مثل زيادة جرعة دوائية معينة أو إضافة دواء جديد أو حتى مراجعة أقرب مستشفى طوارئ.
إن الثورة القادمة من الذكاء الاصطناعى لا تقتصر فقط على الصناعة والتعليم والصحة، بل تشمل أيضا تحسين عملية اتخاذ القرار سواء على مستوى الأفراد أو الشركات أو حتى الحكومات، وكذلك تحقيق الكفاءة فى إدارة الموارد وتجنب الهدر والفاقد، والتعامل بصورة أفضل مع توقعات الأفراد واحتياجاتهم وتقديم خدمات جيدة لهم، بالإضافة إلى تعظيم القدرة على تجنب بعض صدمات المستقبل التى يمكن التنبؤ بها من خلال تحليل البيانات الضخمة.
النص الأصلى