أكتب هذه السطور مستجيبًا للدعوة الكريمة من جريدة «الشروق» لتدوين شهادتى عن تجربتى لإنجاز أغلفة الإصدار الجديد من الأعمال الكاملة للكاتب الكبير نجيب محفوظ، الذى صدرت فى عشرة أجزاء لـ «دار الشروق»، وهى التجربة التى اعتبرت القيام بها محظوظية قدرية خصوصية، وفرصة ثمينة أمتن لها كثيرًا، فهذه الأعمال التى كانت من أساسات قراءاتى الأولى فى الشباب المبكر، وما زالت قراءتها مصدرًا متجددًا للمتعة والتأثير والتأمل. لطالما كانت تخايلنى منذ زمن صورة بصرية أخرى مغايرة مستحقة تعبر عن حساسية هذا المشروع الأدبى الأكبر مصريًا وعربيًا.. فلظروف عديدة كانت هناك صورة بصرية قد استقرت مرتبطة بمشروع الرجل الكبير، صورة معتمدة على تصدير جوانب من الحارة وتفاصيلها الدارجة الواضحة، من فتوات بجلاليب بلدية ونبابيت قاسية، ونساء خانعات فى خدورهن، أو قويات قادرات بمناديل رأس مدندشة وفى «ملايات لف» مغوية، ودراويش بأسمال مهترئة، و«عربجية» وكلافين غلابة، وحرافيش جائعين مقهورين، ووجهاء وتجار بعبايات ثمينة مذهَّبة، أو ظلال لرجال حكماء بطرابيشهم وبدلاتهم ومنشآتهم العاجية يتحركون فى بيئات محكمة مستقرة، وغيرها من مظاهر سادت «الجو» البصرى الموازى لهذا المنجز الأدبى الممتد الفريد! سواء كان فى كثير من تجلياته وترجماته السينمائية، أو فى كثير من المطبوع والمرسوم منه.

لهذا كنت دومًا ما أتخيل تجربة بصرية أخرى تشتبك مع روح المشروع فى عمقه.. مع لؤمه، ودهائه، مع ما أتصوره من معانى فيه، مع حداثته الشاهقة المتجددة، مع جموحه وتجاوزه الفنى والزمنى، وليس ـ فقط ـ مع صوره وشخصيات وجغرافية مسرحه التى أعدها الرجل بمخاتلة فنية فذة ليقدم عبره وفوقه كل هذا الجموح الفنى وكل ذلك التجاوز الفلسفى والنفسى الرفيع.

وعليه فقد كان القرار قبل الانطلاق فى العمل هو حرية التقليب فى الأفكار وتقنيات التعبير اقتداءً بدعوة التجريب والحرية الساطعة التى خلّقها الرجل الكبير فى تفاصيل كل مشروعه، وبدون أى تحديد مسبق للوسائط التى سأستخدمها فى تنفيذ هذا «البحث»، وأعطيت لنفسى الفرصة كاملة لاستخدام أى من العناصر التى قد أراها موحية وناجعة للتعبير فى كل غلاف، مع انتباه حريص لمراعاة دوام تحقق اتزان مثقالين أساسيين: أولهما هو وجود مظلة بصرية جامعة تحتضن وتجمع كل الأغلفة العشرة فى عائلة واحدة متجانسة، ذلك باختيار صورة نادرة للرجل (وهو فى منتصف عمره) فى مكان ثابت وبجواره رقم المجلد، وكذلك اسمه الرئيسى بخط يده شخصيًا، وكذا خلفية موحدة فى ظهر الأغلفة لملمس ورق دارج، ليبعد الأغلفة أكثر عن فكرة المتحفة أو النخبوية، غير موضعة عناصر أخرى فى الكعب وباطن الغلاف، وتوحيد نوع ومقاس خطوط الكتابة المستخدمة فى كل الأغلفة، والأهم كان أن الحفاظ حتى النهاية على تلك الأخوة الجامعة لكل الأغلفة بالحفاظ على نفس المنطق الذهنى والعاطفى فى العمق، ولذلك عملت على وضع الأفكار والتصميم الأساسى للأغلفة فى وقت واحد تقريبا رغم ما يبدو فى ذلك من صعوبة عملية، لكنى لم أشعر بذاك أبدًا والله.. أما ثانى المثقالين فهو الاطمئنان لتحقق فردية سمت وتعبير كل غلاف ليكون موازيًا وموحيًا بروح محتوياته. وعند هذه النقطة بالتحديد قفزت أكثر للأمام، وقررت اعتبار العقدة التى سأواجهها فى كيفية التعبير فى غلاف واحد عن عدة أعمال مختلفة هى نفسها الزاوية الأنسب «للنشان»، وذلك بأن يكون الغلاف هو مزيج متناغم من «أصوات بصرية» منتخبة من الأعمال المختلفة من مجلده، تقدم سيناريو جديدًا طازجًا يعكس منطقه رائحة هذا المتن المتنوع وهويته، بدون إشارات متعسفة تنزلق لترجمة مباشرة ذلك المتن.. بالعكس فقد تشجعت أكثر وقررت اختراع أسئلة لهذه المتون تعطينى إجاباتها أصداءً أكثر عصرية وجِدة، ففى غلاف المجلد الأول مثلا اعتمدت على التناقض والتواصل ــ معًا ــ للحضور الأنثوى فى العصر المصرى القديم الذى دارت فيه الثلاث روايات الأولى «الفرعونية»، وفى العصر المحدث الموازى لخان الخليلى والقاهرة الجديدة.. وفى غلاف المجلد الثانى على تقابل الزقاق المتداعى وملامس الجدران المنهكة الخشنة مع أسطوانة الطقطوقة العابثة «إيه رأيك فى خفافتى؟»! وفى غلاف المجلد الثالث على الرؤية الملهمة فى أعمال الثلاثية لفكرة تشكّل وولادة الأمة المصرية الحديثة عبر ثورة ١٩١٩ والتحولات التى انسحبت على شخوصها ومصائرهم، وفى غلاف المجلد الرابع على حضور جو الإثارة المسنون الصادم فى مناخ عصره التائه، وفى غلاف المجلد الخامس الذى يبدو تكوينه وقورًا مستقرًا للوهلة الأولى، لكن عناصره بما تمثله بمفردها، وبعلاقتها البينية تشى رغم البريق المتمدين الظاهرى بأزمة غربة وعدمية وبرودة قاسية، أما فى غلاف المجلد السادس فقد راق لى أن أشاغب نجيب محفوظ نفسه، واستخدم صورته وهو طفل لأجعله وهو ومن معه من أفراد عائلته من أبطال العمل، بل وحتى استحضرت على الغلاف شهادة ميلاده الحقيقية.. هل هى مشاغبة فعلا، أم أنه تأثر بصورة ما بفكرة «النميمة» الفنانة التى نسج بها «المرايا» الباهرة؟! فى غلاف المجلد السابع تركت لنفسى الانجراف الممتع للتعبير عن هذا الوجد العاتى الذى لفح كل من قرأ الحرافيش، الوجد الذى يمثل الوجه الصوفى الخاص برؤية محفوظ الفلسفية، الوجد الثقيل الذى كان يتكثف فى مشاهد عاشور الناجى والعديد من ذريته من بعده وهم يجاورون فى الظلمة التكية المقفولة لينصتوا لأناشيدها السحرية، وهم يتأملون فى جلال الكون وتشرق قلوبهم الخشنة بالرقة والتساؤل، وهو نفس الوجد الذى ظل يشمل البطل فى «قلب الليل» أيضا بطريقته الخاصة، فأوجدت فى تصميمه الراديو القديم الذى هو أقرب لأجواء «حضرة المحترم» أو «حكايات حارتنا» مثلا، لكنه لما لا يكون هو أيضًا مصدر صوت الموسيقى والغناء فى «الحرافيش».. فى خلفية ليل متكون من لون يافطات الشوارع القاهرية القديمة التى لا تُخطأ، وتترصع عليه (بالخطوط البيضاء القصيرة والدوائر الصفراء) نسخة من الخريطة الحقيقية لمجرة «درب التبانة» كما يراها سكان الأرض المتأملون فى سماء الليالى الصافية المجلوة.. أما فى غلاف المجلد الثامن فكان المدخل هو الحسية المشتركة فى معظم أعماله، وكذلك «الوعد» بالقبول والحب، لذلك كان حضور ثمار المشمش بتكوينها وملمسها ورائحتها الموحيين، مع فانتازيا بعيدة لصورة شابة مصرية من أوائل الصور التاريخية التى التقطت فوتوغرافيا فى مصر (١٨٤٣)، وفى غلاف المجلد التاسع كان المزج للباب القاهرى المعروف، تحت إضاءة شمسية دراماتيكية، وواقفة ضلفته فيما بين الإغلاق أو الفتح، يبزغ من جوفه فرع مزهر يانع مقتطف من رسوم مخطوط «الحيوان» البديع المرسوم فى القرن الرابع عشر فى مصر، هل نتحدث هنا عن الهوية فى أعمال نجيب محفوظ؟! وفى غلاف المجلد العاشر والأخير فقد حضرت «الأطلال» (لمبنى قديم سجله الرسام الفرنسى فى «وصف مصر» الشهير)، التى هى مسرح للأصداء، ومعلم من معالم نهاية الأزمان والرحلات، مع حضور لرسوم من رسوم الوشم القديم، بمذاقها الفانتازى، وإحالاتها البلدية الأصلية.

وبعد الاشتباك عمليًا ومباشرة مع هذا المشروع أقول شهادتى مطمئنًا: وهى أنه بموازاة عظمته الأدبية، فمشروع هذا الرجل الكبير هو واحد من أكبر المشاريع البصرية أيضًا، ومصدر لا تجف عيونه، وسيظل دائمًا ملهمًا وقابلًا للتجدد والتأويل فى صور وتطبيقات إبداعية أكثر تنوعًا وعصرنة، فأعماله ــ رغم ما يبدو فى التعبير من إفراط ــ عابرة للوقت وللأجيال حرفيًا.