هبط الملاك فى بيروت - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هبط الملاك فى بيروت

نشر فى : الأربعاء 1 يناير 2014 - 8:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 يناير 2014 - 8:40 ص

قررت وزارة الثقافة اللبنانية المشاركة فى مسابقة الأوسكار. احتدم التنافس بين «قصة ثوانى» للارا ثابت، و«غدى» لأمين درة. الأخير، تم اختياره من قبل لجنة ضمت كبار النقاد والسينمائيين، لكن، لأنه نزل لدور العرض بعد بداية شهر نوفمبر، تأجل ترشيحه للعام المقبل، حل مكانه «قصة ثوانى» المتمتع بنفحة حداثة، والذى تعرضنا له سابقا.

«غدى»، عنوان الفيلم، وهو اسم بطله الذى تدور حوله الأحداث، دون أن يساهم فى صنعها، ذلك لأنه معاق ذهنيا، جاء بعد بنتين، بإصرار على إبقائه فى رحم والدته برغم معرفة حالته.. والده، كاتب سيناريو الفيلم، الممثل المتمتع بحضور عميق وشفاف، المعبر بدقة لا تخلو من شاعرية عن أشد الانفعالات تركيبا وجموحا، جورج خباز، الراوى، الذى يسرد لنا فى البداية طرفا من حياته طفلا، يتعرض لسخرية زملائه التلاميذ بسبب «التأتأة وضعف بنيانه.. لكن نسيما طيبا يهف عليه من مصدرين: مدرس الموسيقى الرقيق، الذى يعلمه عزف البيانو، وقبول الحياة بحلوها ومرها.. والبنت الصغيرة، لارا، الحانية، التى ستصبح زوجته، والتى تتحمل معه، من دون تشكٍ، مسئولية ابنهما المعاق، فاقد النطق والإدراك، والذى أضحى صبيا، يصدر أصواتا أقرب للصراخ، تزعج أهالى الحى، خاصة غلاظ القلوب، الذين يطالبون الأسرة بالرحيل، أو وضع الابن فى مصحة.

اعتمادا على السيناريو المحكم، الذكى، يستعرض أمين درة، فى لقطات ومشاهد موجزة، سريعة، حياة سكان حى «المشكل» ــ وهذا اسمه ــ حيث يوحى بمعنيين، فإما المقصود به أنه يضم تشكيلة مختلفة المشارب من الناس، أو أنه بمثابة مشكلة فى حد ذاته.. الشخصيات هنا لبنانية تماما، محلية وإنسانية، تمنح الفيلم، بصدقها، مذاق الحقيقة: الحلاق، لا يتوقف عن الثرثرة، يعمل إلى جانب مهنته بالسمسرة، وبيع أى شىء كى يزيد دخله.. عسكرى الدرك، الذى يسرق النذور، بانتظام، من الصندوق الموضوع تحت صورة العذراء.. الجزار، المدرب على وضع الشغت والدهون فى المفرمة قبل أن ينتبه الزبون.. وثمة المرأة السيئة السمعة، التى يشمئز منها الرجال علنا، ويتمنونها سرا.. وأخرى، ذات مظهر عصبى شرس، لم يتحقق حلمها بالزواج من حبيبها حسن، لاختلاف ديانتهما.. نماذج بشرية تتحرك بعفوية، وبأداء تمثيلى متناغم ومتمكن، متجانس مع المكان، سواء فى الحارة، أو فوق الأسطح أو داخل الشقق، بما يجرى فيها من خصوصية، فالتلصص، إحدى سمات «المشاكل».

تخفيفا لعناء الابنتين بسبب موقف الاخرين المعترض على بقاء أسرتيهما، يحاول الأب اقناعهما أن «غدى» ملاك، طيب ووديع ونقى، وحين يسألان عن جناحيه، تسعفه قريحته بأن لا ضرورة لهما، طالما هو يسير على الأرض ولا يحلق فى السماء.

تنتشر الفكرة على أرض الواقع، خاصة عندما يروج لها بعض الهامشيين فى الحى، ولأن الكثير من السكان يحتاجون لمعجزة تنتشلهم من مآزقهم، فإن التبرك بـ«الملاك.. يصبح ضرورة.. وربما لم يرصد الفيلم، بما فيه الكفاية، متاعب الناس المزمنة التى تدفعهم للاقتناع بالمعجزة، وإن كان يشير إلى تلك الفتاة التى تريد عريسا قبل فوات قطار الزواج، وذلك الرجل الضخم، الفحل، الذى يأمل فى شفائه من العنة التى أصابته فجأة.

أمام نافذة «غدى»، الواقعة فى الطابق الثالث، يتجمع الناس فى الساحة المقابلة.. أمسى المكان مزارا، تضاء له الشموع، وتزداد النذور، وتروج حركة البيع، وتحول المعاق إلى ملاك، وتحول الملاك إلى مؤسسة، ولتأكيد صدقيتها المزيفة، يلجأ الأب إلى تسجيل ترانيم كورالية، ذات طابع روحانى، يجرى تشغيلها بعيدا عن الأعين، وتسلط أضواء ساطعة على «غدى» بعد تدعيمه بجناحين يحركهما أحد المستفيدين من المولد، ويمسك الأب بميكروفون، متحدثا باسم الملاك، مع الناس وعنهم مما يضاعف من اقتناعهم بالمعجزة.. وحتى، حين يحاول أحد المثقفين الإشارة إلى أن ما يدور مجرد أوهام، يتعرض للبطش الشديد، ويصاب بكدمات وكسور تذهب به إلى المستشفى.. والأهم أن الأب، فى نوبة يقظة ضمير، يعترف ان ما يجرى مجرد «فانتازيا»، وان ابنه ليس ملاكا. لكن الحلاق يعارضه قائلا «انه ملاك ونصف».. وآخر ينبهه إلى أن «الفكرة أكبر منه»، وطالما أنها خرجت، اكتسبت حضورا مستقلا، ولابد أن تأخذ مداها.

الواضح أن جورج خباز، كاتب السيناريو، وأمين درة، المخرج، ارتبكا إزاء النهاية، فمنطق الفيلم الصارم، برغم لمساته الكوميدية، والإنسانية، يؤدى بالضرورة إلى ختام يؤكد، ويفضح، الكثير من الأوهام، الأمر الذى أخاف، فيما يبدو، صناع الفيلم، وبالتالى اختاروا نهاية تصالحية، شاحبة، حيث يعم الوئام، ويتخلى الشاب المضروب عن رفضه للأكذوبة.. لكن مأخذ النهاية، لا يقلل من متعة عرض حال الناس، حين يهبط عليهم «ملاك»، حتى ان كان مزيفا.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات