الفصول الأخيرة فى قصة الدولار! - محمد يوسف - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الفصول الأخيرة فى قصة الدولار!

نشر فى : الأربعاء 1 يونيو 2022 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 يونيو 2022 - 10:00 م

أزعم أن الدولار الأمريكى يعيش على مشارف عصر التراجع والأفول فى مكانته فى الاقتصاد العالمى. وإذا كان هذا الزعم يحتاج إلى دليل، فإن وقائع النظام الاقتصادى الدولى المعاصر تقدم لنا أدلة عديدة على ذلك وليس دليلا واحدا. لكن قبل عرض ومناقشة هذه الأدلة، فإننى أنظر لقصة الدولار الأمريكى نظرة مشوبة بالدهشة والعجب. فكيف لدولار لامع وذا قبول دولى غير محدود أن تبدأ كتابة الفصول الأخيرة فى قصته التاريخية؟! وكيف لهذا اللمعان أن ينطفئ ويأخذ فى الخفوت التدريجى؟ أولم يكن القبول الدولى هو السبب الرئيسى فى هذا التفوق؟! فما الذى حدث إذن لهذا القبول حتى يتجه للتراجع والانحسار؟! وهل سيترك الاقتصاد الأمريكى عملته لهذا المصير الدولى المحتوم؛ أم أن هذه هى سُنّة عالمنا التى لا حيلة أمامها؟!
• • •
لا أحتاج للخوض كثيرا فى الفصول الأولى لقصة سيطرة الدولار على السيولة الدولية إلا بالقدر الذى يفيدنا فى استخلاص إرهاصات الفصول الأخيرة من هذه القصة. فميلاد نظام النقد الدولى بملامحه الحالية، وتحديدا منذ خروج اتفاق «بريتون وودز» للنور فى أربعينيات القرن العشرين، قد أشاع استخدام الدولار الأمريكى فى كافة الأسواق الدولية، بدءا من أسواق السلع وانتهاء بأسواق الديون. ولقد كان ذلك إيذانا بسيطرة الولايات المتحدة على قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية، ثم أصبح هذا الدولار هو المصدر الأول للقوة الأمريكية والسمة الأبرز للعصر الأمريكى الذى يحياه عالمنا المعاصر.

وكان أن أعطى النظام الاقتصادى الدولى حينها ثقته المحدودة للدولار الأمريكى؛ ليس لجهل بمخاطر أو بحدود هذه الثقة، بل للمزايا العديدة التى كان يتوقع أن تجنيها التجارة الدولية من نظام «بريتون وودز». ثم لم تمر كثير من السنوات حتى تعرضت هذه الثقة الدولية لهزة عنيفة بعدما نكصت الولايات المتحدة على تعهدها السابق بتحويل الدولار لذهب فى العام 1971. آنئذ، لم يتوقع أكثر الاقتصاديين تشاؤما انهيار منظومة الرأسمالية العالمية وسقوط الدولار؛ وكان السبب الواضح للعيان هو الاحتماء بالقوة الأمريكية خوفا من الغول السوفيتى الذى كان يهدد دائما بالتهام دول العالم المتقدم والقضاء المبرم على المنظومة الرأسمالية برمتها. إن هذا الخوف إذن قد حوّل الثقة الاقتصادية المحدودة فى الدولار إلى ثقة غير محدودة. وتلك اللحظة تحديدا هى منتصف قصتنا التى نرويها.

ومنذ ذلك التاريخ، وبعدما أصبح الدولار الأمريكى مقبولا لذاته بانقطاع صلته المباشرة بالذهب، بات الاقتصاد الأمريكى يمتلك القوة الاقتصادية الأهم فى تاريخ الإنسانية؛ فبسياسات منفردة وغير مقيدة، يمكنه الحصول على كل ما يريد من موارد العالم وخيراته بمجرد طباعة بعض الأوراق ملونة باللون الأخضر الشهير. لكننا نعلم يقينا أن دوام الحال من المحال، ونعلم أيضا أن الحفاظ على القمة أصعب كثيرا من الوصول إليها!
• • •
لقد بدأ الانحسار التدريجى للدولار فى الأسواق الدولية مبكرا. فمع بزوغ نجم اليابان فى اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومع السير قدما فى الوحدة الأوروبية، بدا وكأن الدولار يفقد تدريجيا زخمه الدولى، وظهر له منافسون أشداء فى سوق السيولة الدولية بتمتعهم بقبول دولى متنامٍ. وما إن تفكك الاتحاد السوفيتى وسقط جدار برلين، حتى انتفى المبرر الأهم لسيادة الدولار. ذلك أن هذا التفكك وذلك السقوط يعنى بداهة زوال التهديد الذى طالما استخدمته الولايات المتحدة بآلتها الإعلامية الجبارة لاستمرار سيطرتها على السيولة الدولية. ثم سرعان ما أتت الرياح بعد ذلك بما لا تشتهى السفن!

وقبل أن نحدد سرعة واتجاه الرياح التى هددت ــ وما زالت ــ عرش الدولار، من المفيد هنا القول إن صعود الين اليابانى واليورو الأوروبى وباقى العملات الرئيسية فى سوق السيولة الدولية لم يكن من النوع التصادمى مع الدولار الأمريكى. فما يحدث بينهم يمكن أن نصفه بمنافسة الأصدقاء؛ وكيف لا، وهذه العملات تصدر عن اقتصادات يظلها سقف مشترك وتجمعها أيديولوجيا واحدة. وحتى عندما صعد نجم اليوان الصينى فى بداية الألفية الثالثة، ومع احتدام التنافس الأمريكى ــ الصينى فى حلبة التجارة الدولية بعد ذلك، فإننى أرى أن الصين لا تهتم كثيرا ــ وعلى الأقل حاليا ــ بإنزال الدولار من عرشه؛ ليس فقط لأنها لا تقدر على ذلك بأدواتها الراهنة، بل لأن هذا الإنزال سيرفع من تكاليف التجارة والاستثمار الدوليين وللدرجة التى يخسر فيه الاقتصاد الصينى أكثر مما قد يجنيه من مكاسب دولية حال تراجع الدولار. فالصين، رغم كل ما يثار من غبار فى الإعلام الدولى حاليا، تحقق فوائد جمة من قيام الولايات المتحدة بدور المنظم ــ أو قل الشرطى و«المايسترو» ــ للاقتصاد الدولى. وضف إلى ذلك أن الصين حاليا هى صاحبة الاحتياطى الأضخم عالميا من هذا الدولار؛ فكيف لها إذن أن تقبل بسهولة بمثل هذه الخسائر الرأسمالية الضخمة حال تراجع الدولار قيمةً ومكانةً؟!

إننى أرى أن الحد الفاصل بين ازدهار الدولار وأفوله، بين استمراره أو تراجعه، لا يحدث فى العالم الحقيقى، بل ما يحدث حاليا على صعيد افتراضى؛ ألا وهو عالم تكنولوجيا الدفع الرقمى وفضاء النقود الرقمية. فعندما تتقبل الأسواق الدولية هذه النقود بقبول حسن، وتستند عملية إصدارها على أساس تكنولوجى متين، ثم يشيع استخدامها فى المعاملات بين الدول والشركات والأفراد، فإن ذلك يعنى أن البنوك المركزية قد فقدت السيطرة على أهم ما تملكه من أدوات فى عالم المستقبل، حتى لو زعمت الآن أن ذلك ليس إلا ضربا من ضروب الخيال. حينها لن ينزل الدولار من فوق عرشه العالمى فحسب، بل إن الأنماط السائدة حاليا من السيولة الدولية ستختفى إلى غير رجعة. غير أنى أرى أيضا أن هذه الرؤية الاستشرافية تظل محكومة بعدة افتراضات؛ أهمها أنها تفترض انتصارا مستقبليا ساحقا لتكنولوجيا النقود الرقمية على عناصر المقاومة بقيادة البنوك المركزية العالمية والمؤسسات الدولية المترابطة معها، وفى مقدمتها الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى وصندوق النقد الدولى؛ ليصل العالم ــ عاجلا أو آجلا ــ إلى عصر النقود الرقمية.
• • •
لتتخيل معى الآن شكل العالم بدون الدولار الورقى الذى يمثل أهم مظاهر السيادة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية. إن حلول النقود الرقمية، بأشكالها المتعددة والمتطورة، محل السيولة الدولية التقليدية يعنى للمتأمل فى المستقبل ثلاثة أمور لا يجوز له أن يغفلها أو يتجاهلها؛ أولها هو أنه من الممكن أن يتحول الدولار الورقى إلى دولار رقمى، ويسير الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى ــ راغما ــ فى هذا الركب؛ مع ما يحيط بذلك التحول من مشكلات وقيود جمة بفعل التطور التكنولوجى فائق السرعة. وثانيها هو انتقال السيادة على السيولة الدولية من أروقة البنوك المركزية العالمية إلى أقبية وسائط الدفع الرقمى والشركات التكنولوجية المطورة للعملات الرقمية والمسيطرة على الحوسبة المرتبطة بها؛ مع ما يترتب على ذلك من تغير درامى فى جغرافيا القوة الاقتصادية فى عالم المستقبل.
ونظرا لأننى أرى أن التحول الأمريكى للدولار الرقمى قد يمثل حلا وإنقاذا مستقبليا مؤقتا للسيادة الأمريكية، فإننى فى ذات الوقت أعتقد أن انتشار التكنولوجيا عالميا ــ وخصوصا فى شرق العالم وتحديدا فى الإقليم الصينى ــ سيُضيّق النطاق فى نهاية المطاف على هذه السيادة؛ ليحل محلها سادة جدد لعالم المستقبل؛ ولتفقد الولايات المتحدة بذلك المصدر الأول لقوتها الاقتصادية كما تقدمت الإشارة.
ولست أغالى، فى سياق التوقعات السابقة، عندما أقول إن عالما يسوده الدولار الأمريكى الورقى سيختلف تماما عن عالما بدونه. غير أن العالم بدون الدولار التقليدى لن يكون ورديا كما يحلم بذلك البعض؛ فقد تشهد قصة الدولار الحالى نهاية فصولها الأخيرة قريبا لتأذن بميلاد قصة جديدة لدولار رقمى ــ أو قد يكون يوان رقمى ــ يواكب هذا التطور ويتماشى معه؛ حتى ولو بدرجة أقل من السيطرة والانتشار والقبول الدولى. كما أن شيوع النقود الرقمية لا يعنى أن العالم قد وصل لعصر العدالة الاقتصادية التى يحلم بها المصلحون أو يتمناها أنصار التنمية المستقلة لدول العالم الآخذ فى النمو؛ بل لا غرو إنه بدون وجود قواعد وتنظيمات أممية لهذه النقود الافتراضية، وبغياب صيغة دولية مقبولة تتحكم فى قيم وتوجهات السيولة الدولية الرقمية، ستستمر المشكلات المالية تعصف بالاقتصاد العالمى، وستظل الفقاعات المالية تنفجر حينا بعد آخر فى وجه الاقتصاد الحقيقى المكلوم.
• • •
إن المفارقة التى قد ينتهى إليها القارئ والقارئة هنا، هى أنه كيف يصح الحديث عن أفول عصر الدولار الورقى فى الوقت الذى يحقق فيه الدولار حاليا معدلات نمو واضحة فى قيمته أمام أغلب عملات العالم؟! لكن تفسير هذه المفارقة بسيط بقدر ما هو ضرورى لفهم أبعاد ما قدمته الفقرات السابقة من استشراف. فما يحدث حاليا فى النظام النقدى الدولى لا يعدو عن كونه تغيرات نقدية عارضة لا يمكن أن تلغى الاتجاه الأصيل الذى يحدث خلف الصورة. فتحرك عالمنا صوب النقود الرقمية لن تمنعه أو تبطئه تغيرات محدودة الأثر من عينة زيادة أسعار الفائدة الأمريكية؛ فماذا عساها أن تفعل الفائدة المرتفعة على عملة تقليدية باتت مهددة جديا بالنزول من عرشها؟!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات