عين جالوت (1-3) - محمد سليم العوا - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 7:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عين جالوت (1-3)

نشر فى : الأربعاء 1 سبتمبر 2010 - 10:13 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 سبتمبر 2010 - 10:13 ص

 عندما استولى التتار على بغداد، وفرغوا من احتلالها، وقضوا على الخلافة العباسية فيها، أكثروا الفظائع فى أهلها ومثلوا بالرجال والنساء، وعم الخوف عاصمة الخلافة وما حولها من المدن والقرى. وبدأ بعض ملوك الشام فى مراسلة ملك التتار (هولاكو) وإظهار الطاعة له، خوفا من أن يصيبهم ويصيب بلادهم ما أصاب الخليفة وبلده. ولكن هذا الخوف الظاهر من التتار، والتسليم المبكر لهم، والهوان الذى أظهره هؤلاء الحكام أمامهم، لم يردهم عن خطتهم الأصلية وهى الاستيلاء على الشام تمهيدا للاستيلاء على مصر.

فلم يكن هولاكو غافلا عن أن الذى يجمع بين حكم مصر وحكم الشام يحكم المشرق الإسلامى كله، وأنه إذا لم يتملك هذين القطرين العظيمين تظل احتمالات نشوء مقاومة منهما قائمة، وهى مقاومة عندما تجتمع فيها قوى مصر والشام ستكون تهديدا لملكه وخطرا عليه مهما بلغ. فسار هولاكو إلى الشام وسقطت مدنه أمامه، مدينة بعد أخرى، حتى وصل إلى دمشق وأباح أحياء تلك العاصمة الإسلامية العظيمة وبيوتها ومتاجرها لجنوده ينهبون ويسرقون، وأهل دمشق بين مغادر لها خوفا من التتار، وبين لائذ بأمرائها فى قلعة دمشق، على وهم أن يستطيع هؤلاء الأمراء صد الإعصار المغولى.

وانتهى أمر القلعة ومن فيها بالسقوط فى يد التتار، وبلغت أنباء هذا السقوط المخزى مصر، التى كانت تحت حكم السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز، فجمع أمراءه لمشاورتهم فى هذا الخطب الجلل وما ينتظر بعده إذا لم يجد التتار قوة تروعهم وتكف عداوتهم. وأخبر قطز الأمراء أن التتار أخذوا جميع بلاد الشام، ووصلوا إلى أطراف غزة والخليل والسلط وبيت جبريل (من مدن فلسطين) فقتلوا وسَبَوا، وأخذوا كل ما قدروا عليه، وعادوا إلى دمشق فباعوا فيها ما نهبوه من بلاد فلسطين.

وفى أثناء هذه المداولة بين قطز وأمرائه، وصلت إلى قطز رسالة من هولاكو يقول فيها: «يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته، وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أننا نحن جند الله فى أرضه، خَلَقَنا من سَخَطه، وسلَّطنا على من حَلَّ به غضبه فلكم بجميع البلاد معتبر.. فاتعظوا بغيركم وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا.. فنحن لا نرحم من بَكى ولا نَرِقَّ لمن شكا فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب... فما من سيوفنا خلاص ولا من مهابتنا مناص... فخيولنا سوابق وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال والعساكر لقتالنا لا تنفع ودعاؤكم علينا لا يُسْمَع فمن طلب حربنا ندم ومن قصد أماننا سلم»

فقرأ الملك المظفر قطز هذا الكتاب على أمراء مصر، فأجمع أمرهم على قتل الرسل والهرب إلى الصالحية(!) ولكن قطز لم يقبل هذا الرأى، وتخير عددا ممن يثق بهم من الأمراء وشاورهم مشاورة ثانية، وبيّن لهم ضرورة الخروج للقاء التتر ومواجهتهم فوافقوه وتحمسوا لذلك. ونودى فى القاهرة وسائر أقاليم مصر بالخروج فى سبيل الله، ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه.
وبدأ المسير، ولكن بعض الأمراء تردد فى الطريق فقال قطز: «أنا ألقى التتار بنفسى» وسار بمن معه من الجنود ومعه الأمير ركن الدين بيبرس (الظاهر بيبرس) فأمره بالتقدم فى كتيبته من الجند ليعرف أخبار التتر، فسار بيبرس إلى غزة وبها جموع عظيمة من التتار فلما بلغهم خبر اقتراب طليعة الجيش المصرى من غزة رحلوا عنها، ودخلها بيبرس وطمأن أهلها، ومَلَكَها بغير قتال. ولحقه قطز، وسارا معا إلى أن بلغا عين جالوت. فجمع قطز الأمراء ورؤساء الجند وحضهم على قتال التتر، وذكَّرهم بما أصاب أهل البلاد الأخرى من القتل والسبى، ودعاهم إلى العمل على استنقاذ الشام ونصرة الإسلام، وحذرهم عقوبة الله تعالى للمتولين يوم الزحف، والقاعدين عن لقاء عدو الله وعدو الإسلام، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد فى قتال التتر ودفعهم عن البلاد.

وفى هذا القدر من الإعداد لموقعة عين جالوت دروس لا ينبغى أن تفوتنا فى هذا العصر: أولها، أن الوقيعة بين مصر والشام، والخلاف بينهما لا يفيد منهما إلا عدوهما المحارب لهما معا. وثانيها، أن الطريق الأوحد للوحدة العربية/ الإسلامية هو وحدة الشام ومصر، هى النواة الأساسية لكل وحدة أخرى. وثالثها، أن العدو مهما بلغت قوته إذا لقى جيشا مقداما صادق الإيمان، قوى العزيمة، وقائدا شجاعا لم تقم له قائمة. وهذا قانون دائم فى المقابلة بين الذين يقاتلون فى سبيل الله والذين يقاتلون فى سبيل الطاغوت، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أخلى التتار غزة بمجرد سماعهم باقتراب طليعة صغيرة من جيش مصر يقودها الظاهر بيبرس.

ورابعها، أن غزة، وفلسطين عامة، هى الباب الشرقى لمصر من حماها فقد حمى مصر ومن فرَّط فيها فرّط فى مصر، ومن حاربها حارب مصر ومن أضعفها فقد أضعف مصر!! والتنبه لهذا واجب على كل مصرى، مخلص لوطنه، حاكما كان أم محكوما.
وغدا نستكمل إن شاء الله

محمد سليم العوا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التعليقات