«مانشيستر بجوار البحر».. محاولة لاستعادة قلب محطم - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مانشيستر بجوار البحر».. محاولة لاستعادة قلب محطم

نشر فى : الخميس 2 مارس 2017 - 10:50 م | آخر تحديث : الخميس 2 مارس 2017 - 10:50 م
هذا فيلم مؤثر عن ذلك الشىء الذى لو تحطم لفقدت الحياة طعمها؛ «القلب»، وهو أيضا فيلم عن إحدى أيقونات هوليوود الكبرى؛ العائلة.

من هذا المزيج الصعب، كتب كينيث لونيرجان وأخرج فيلمه «Manchester by the sea» أو «مانشيستر بجوار البحر»، والذى يحمل مذاق الأعمال الدرامية الكبرى: فيه هذا الرسم المتقن للشخصيات، حتى تظن كأنها مقتبسة عن نص روائى أو مسرحى، وفيه هذا التعبير المتقن عن المشاعر والأحاسيس حوارا وأداء، وفيه كذلك معالجة تراجيدية بالأساس، ولكن تخفف منها كثيرا لمسات كوميدية ساخرة، ثم إننا من قبل ومن بعد فى دائرة أيقونة الأسرة الخالدة، وإنما من خلال دراما شديدة الحساسية، وأقرب إلى الواقع، وأقرب كذلك إلى تعقيد الطبيعة الإنسانية، الهشة والمثيرة للتعاطف.

هناك أيقونات هوليوودية ثلاث تدافع عنها كثير من الأفلام الأمريكية: العائلة، والوطن، والله، أحيانا يندمج الثلاثة فى فيلم واحد، وأحيانا يكون لدينا أيقونة واحدة فقط يتناولها فيلم واحد، و«مانشيستر بجوار البحر» الأسرة هى محور حكايته، ولكنه يدير أحداثه من خلال الإنسان الفرد الذى تحطم قلبه.

والصراع فى الفيلم كله مصدره محاولة صاحب قلب محطم أن يصنع أسرة بديلة عن أسرة يشعر أنه مسئول عن فقدها، اللمسة الصادمة هنا هى أن صاحب القلب المحطم لن ينجح فى ذلك، ولكنه لن يفشل أيضا، سيقف الفيلم على شاطئ المحاولة، وستبدو عودة بطلنا لى «كيسى أفليك» إلى مانشيستر، المدينة الأمريكية التى تجاور البحر، والتى شهدت مأساته، بطولة فى حد ذاتها، وعودة من جديد إلى العائلة.

تنويعات فكرة الأسرة تعمل فى اتجاهات شتى: هناك أولا أسرة لى شيندلر وشقيقه جو شيندلر وباتريك الصغير ابن جو، وهم الثلاثة الذين يفتتح بهم الفيلم مشاهده، نرى الثلاثة فى لقطة بعيدة على مركب وسط الماء، لن نرى الوجوه، ولكن سنشعر بهذه العلاقة الخاصة بين لى وباتريك الصغير، وسنرى الثلاثة معا كعائلة على الماء، وفوق مركب.

سنعرف فيما بعد أنه يحمل اسم أم لى وجو، وهناك ثانيا عائلة لى التى نراها كعائلة نموذجية قبل المأساة: زوجة محبة وعاشقة تدعى راندى، وثلاثة أطفال رائعين، لا يفسد الصورة سوى إسراف لى فى احتساء الكحوليات، ولقاءات الأصدقاء فى المنزل، والتى تزعج راندى وأطفالها، ثم تحدث مأساة لى، يحترق أطفاله الثلاثة بنيران مدفأة لم يحسن العناية بها، وتتحطم أسرة لى بانفصال راندى إثر الكارثة، وينتقل لى إلى مدينة أخرى بعيدة، ليعمل بوابا على أربع بنايات، يقوم بكل شىء تقريبا من إصلاح المراحيض، وتركيب لمبات الكهرباء، إلى تجريف الثلوج أمام المنازل، شخصية صامتة، وعدوانية أحيانا، قلب محطم فاقد لطعم الحياة والأشياء.

وهناك، ثالثا، أسرة جو الشقيق المحب والعطوف، لديه زوجة جميلة وابن هو باتريك، ولكن العائلة أيضا تعانى من التفكك، فالزوجة إليز مدمنة للكحول، يصفونها أحيانا بالجنون، تترك زوجها وابنها، وعندما يكبر باتريك، ويصبح فى سن السادسة عشرة، تظهر أمه فى حياته من جديد، لقد تزوجت من رجل مسيحى متدين، ولعله أحد رجال الدين، أقلعت عن الكحوليات، وصنعت أسرة بديلة، وتريد أن تضم باتريك لها.

هذه الشبكة من العلاقات الأسرية يتم سردها عبر بناء درامى ذكى ومؤثر، لا يقول لك السيناريو المدهش بشكل مباشر أن الكحول سبب تحطم العائلة، ولا يقول لك إنه يختبر فكرة إعادة بناء الأسرة ثلاث مرات، ومن ثلاث زوايا مختلفة، ولكنه يضعنا بشكل أساسى أمام بطله المحطم، وحياته الخاوية، ثم صراعه مع ماضيه عندما يعود إلى مانشيستر، إثر موت شقيقه جو، الذى جعل من لى وصيا على باتريك، حتى يصل الأخير إلى سن الثامنة عشرة.

هنا يلتقى الخطان فى السيناريو بضربة واحدة: قلب محطم، وثلاث أسر محطمة، أو بمعنى أدق، فإن مأساة لى الشخصية تبدو مثل مرآة تعكس مشكلات الأسر الثلاثة، ونسير فى اتجاه محاولة شاقة ومرهقة للغاية، لاستعادة قلب لى المحطم بالأساس، واستعادة الأسر الثلاث لتماسكها، ويصبح الطريق لتعافى لى يمر حتما بأن يكون أبا بديلا لباتريك، وهو ما قاله له أثناء طفولته، وأن يحقق وصية جو، فتعود عائلة شيندلر متحدة معا، ولو لفترة عامين، هى فترة الوصاية على باتريك.

لن ينجح لى تماما فى معركته، ولكننا نتعاطف معه كليا فى محاولته، هو يحب باتريك، وباتريك يحبه منذ طفولته، ولكن شبح مأساة ماشيستر يطارده، لقد هرب لى بعيدا ليعمل بوابا، حياته وسط الجليد تخلو من السعادة، ولكنه يتعثر فى الألم كلما التقى أشخاصا فى مانشيستر، ولكن لى لن يفشل تماما: سيتفهم باتريك وعلاقاته، وسيحقق لى أكثر ما يمكن أن يتحمله لابن أخيه الذى يحبه، ولكن قلبه لن يعود أبدا كما كان، سيختار الفيلم حلا أكثر واقعية لشخصية ليست سهلة: عودة لى وترك الوصاية متسق تماما مع معاناته، ولكن هناك حجرة إضافية تنتظر حضور باتريك لو أراد، لقد نجح لى فى دفن شقيقه جو، واكتشف ابن شقيقه فى مرحلة أكبر، ونجح فى شراء محرك للقارب، بكل دلالة ذلك على استمرار الحياة، لم تستمر الأبوة أو الوصاية، ولم يصنع عائلة بديلة، ولكن والدة باتريك صنعتها، وكذلك راندى التى تزوجت وأنجبت، على الرغم من أنها ما زالت محطمة القلب مثل لى.

ينجح المخرج وكاتب السيناريو فى كتابة وتنفيذ مشاهد رائقة العذوبة والتأثير، تراجيدية أو كوميدية، يبكينا ويضحكنا، وينجح فى رسم معالم شخصياته، وفى تجسيم معاناتهم، وبالذات لى بأداء استثنائى من كيسى أفليك، الصعوبة هنا أنه يحافظ طوال الوقت على تعبير هادئ على وجهه، بينما يشتعل فى داخله، ولا يظهر ذلك إلا عند انفجاراته المفاجئة، وهو يضرب الآخرين بلا سبب فى الحانة، أو عندما يكسر الزجاج فى بيته.

وكان معه على نفس الموجة لوكاس هيدجز فى دور باتريك بكل جموحه وحيويته، وكذلك الممثلة ميشيل ويليامز فى دور راندى، وعلى الرغم من أن الاعتماد على الحوار بالأساس، إلا أن الصورة شديدة الثراء، مشاهد البواب وعمله مثلا تجعله فى إطار وكأنه محاصر، ومشاهد السيارة بين لى وباتريك تعبر عن توتر العلاقة بإظلام جسديهما، والتقابل البصرى واضح طوال الوقت بين أبيض الثلج الذى يعبر عن الجمود والسكون، وأزرق البحر الذى يعبر عن الحركة والتغير، وتوظيف مشاهد العودة للماضى جيد جدا كتابة ومونتاجا.

هذا فيلم لا يغلق أقواسه أبدا، يعترف بأن القلب المحطم لا يعود كما كان، ولكنه ينحاز لفكرة المحاولة، من أجل مواجهة الماضى، وينحاز لفكرة العائلة التى لو لم نجدها، فيجب أن نخترعها من جديد كما فعلت راندى، وكما فعلت أم باتريك، ولكن لى لم يعد يملك خريطة، فلم يعد يرى الأشياء بوضوحها القديم.

هكذا يقولون كل شىء، على الرغم مما قد يبدو من أنهم لا يقولون شيئا على الإطلاق، على الرغم من تلك البساطة الخادعة، والسهولة الممتنعة.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات