«كافيه سوسايتى».. يتغيّر العالم ولا تتغيّر المشاعر! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«كافيه سوسايتى».. يتغيّر العالم ولا تتغيّر المشاعر!

نشر فى : الخميس 3 نوفمبر 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 3 نوفمبر 2016 - 9:35 م
يقدم وودى ألن فى فيلمه «café society» تحية مليئة بالحنين لسنوات الثلاثينيات من القرن العشرين، يعيد إحياءها بكل تفاصيلها، ويعرضها فى صورتها البرّاقة فى هوليوود، وفى أحد ملاهى نيويورك، دون أن يتنازل عن نظرة انتقادية ساخرة، تكشف عن رفضه للحياة المزيفة، حتى لو كانت لامعة، وانحيازه للحب، بوصفه الشىء الوحيد الثابت فى عالم يتغيّر.

الفيلم، الذى افتتح به مهرجان كان 2016، والذى كتبه وأخرجه ألن، يصنع طوال الوقت جدلا بين أحلام بطليه، وبين واقعهم، يختارون الواقع، ويتكيفون مع الظروف، ولكن الحلم يظل دومًا فى الذاكرة. فى أحداث الحكاية التى يسردها ألن (وهو سارد عظيم) ما يذكرك بالقصص البسيطة، التى طالما كانت موضوعات لأفلام الثلاثينيات، تفاصيل علاقة الحب، وسوء التفاهم بين أطراف ثلاثة، تذكرك بسينما الأبيض والأسود الهوليوودية، وعالم الملاهى الليلية، وشخصية رجل العصابات الذى لا يفهم سوى إلغاء الآخرين بالقتل، كلها أمور يتم استحضارها ببراعة، ولكن الفارق الأهم مزدوج وذكى: سخرية آسرة تكسر بريق الصور ولمعانها، وثراء الملابس والديكورات، ونهاية غير سعيدة، حيث يصعد كل من البطلة والبطلة ماديا، ولكن بعد أن انفصلا بلا رجوع، يستقبلان عاما جديدا وسط بهجة وصيحات وأغنيات، ولكن من دون بريق العينين، الذى لا يظهر إلا فى عيون العاشقين السعداء.

تبدو النهاية حزينة، ولكنها لا تعنى موت الرومانسية، بل تؤكد بقاءها، لأن بطلنا بوبى (جيسى إيزنبرج فى أداء ممتاز) لم ينس أبدا حبيبته القديمة فيرونيكا (كريستين ستيوارت)، بل إنه تزوج من امرأة تحمل نفس الاسم، أما هى، فرغم زواجها من صاحب وكالة شهيرة هوليوودية، فإنها تعترف لبوبى بأنها ما زالت تحلم به، يتبادلان القبلات أمام سنترال بارك فى نيويورك، ويقدمان تعبيرا يحمل الأسف فى ليلة رأس السنة، الواقع يربح ظاهريا، ولكن الحب أكثر بقاء واستمرارا وتأثيرا.

من خلال سيناريو محكم كالمعتاد، نتعرف على بوبى ابن العائلة اليهودية، الذى أرسلته أخته الكبرى إلى أخيها فيل (ستيف كاريل) الذى يعيش فى هوليوود، ويمتلك وكالة تتعامل مع أشهر النجمات والنجوم. بوبى لم يصمد فى مجال عمل ورثه هو بيع المجوهرات، أراد أن يغيّر حياته، ولعله فكّر فى نموذج خاله الذى نجح فى غزو هوليوود. بعد ثلاثة أسابيع من انتظار مقابلة خاله، يحظى بوبى بوظيفة هامشية، مجرد شاب يوصل الخطابات، مع فرصة حضور لقاءات خاله بالنجوم والمنتجين، لعله يحظى بوظيفة أفضل.

فيرونيكا، التى تعمل كسكرتيرة لفيل، والتى يدفعها الخال لكى تعرّف ابن أخته على هوليوود، فتاة مثقفة، حصلت على ماجستير فى الأدب الإنجليزى والدراما، ولكنها اختارت أن تعمل فى هوليوود، جاءت وراء بريق الأفلام، ولكنها سرعان ما اكتشفت عالما مزيفا، تسوده المنافسة، ويحكمه الصراع، تغيّرت نظرتها، ولم تعد تتمنى أن يكون لها قصر من قصور النجوم والنجمات، أرادت فقط أن تستعيد حياتها البسيطة، وأن تعيش بالقرب من المحيط.

لن يخيب توقعك عندما يقع بوبى الساذج فى غرام فيرونيكا البسيطة، ولكن وودى ألن يجهز مفاجأة تعقد الحكاية قليلا، إذ نكتشف أن فيرونيكا تحب فيل (خال بوبى)، وهو يعدها بالزواج، بعد أن يطلق زوجته التى ارتبط بها منذ ربع القرن، وأنجب منها عدة أولاد.

يتلاعب ألن بهذه العلاقة الثلاثية ليطلق الضحكات، هى علاقة يمكن أن تحدث فى الواقع، ولكنها مقدمة هنا على طريقة أفلام السينما: فيرونيكا لا تبوح باسم حبيبها لبوبى، وفيل يشكو مأزق حبه لبوبى دون أن يذكر اسمها، يتراجع فيل عن وعده لفيرونيكا بطلاق زوجته، فتتجاوب مع حب بوبى، ولكن فيل يقرر أن يطلق زوجته، فتقع فيرونيكا فى حيرة كاملة، ثم تختار فيل.

ينتهى الفصل الأول من الحكاية، فيعود بوبى إلى نيويورك، ويقبل أن يعمل فى الملهى الليلى الذى امتلكه شقيقه بن، والشقيق رجل عصابات نيويوركى صريح، ولكن الملهى الضخم يصبح فرصة للقاء مجتمع الأثرياء، مضاربون فى البورصة ووارثون ورجال عصابات، نساء جميلات فى كل مكان، وكأننا أمام تنويعة جديدة على بريق هوليوود، ولكن على أنغام موسيقى الجاز، ومن هذا العالم، سيتزوج بوبى من فيرونيكا هايز (بليك لايفلى)، وهى امرأة مطلقة، تركها زوجها السابق، من أجل فتاة أخرى، تماما مثل زوجة فيل.

يحقق بوبى النجاح المادى، وينجب طفلة جميلة، ولكنه يعترف، عندما تزور فيرونيكا القديمة وزوجها فيل نيويورك، بأنه ظل يفكر فى الحبيبة الهوليوودية كل يوم، لن يعود إليها، لأن الواقع يتغير فى اتجاه لا يسمح بالرجوع إلى الخلف: بوبى ورث الملهى بعد إعدام شقيقه بن إثر جريمة قتل رعناء ارتكبها، وفيرونيكا صارت جزءا من هوليوود، التى كانت تنتقد أضواءها وحياتها المزيفة.

يستحضر ألن الثلاثينيات ليقول أشياء مهمة عن الحياة التى يرى بوبى أنها «كوميديا من تأليف مؤلف سادى»، ولعله يقصد بذلك تلك اللعبة التى جعلته هو وخاله يقعان فى حب امرأة واحدة، وإذ يختار ألن هوليوود ونيويورك فإنه يضع عاصمة الفن، وعاصمة المال، تحت الميكروسكوب، وينتهى إلى أن الحب وحده هو الذى يجعل للحياة معنى، وليس الشهرة، ولا المال، ولا حتى السطوة التى دفع بن ثمنها، وكلها قيم تقليدية دافعت عنها سينما هوليوود دائما، ولذلك يتداخل عالم الأفلام وعالم الواقع فى «كافية سوسايتى»، وتبدو قصة بوبى وفيرونيكا وفيل ابنة زمنها الواقعى، بنفس الدرجة التى تبدو وكأنها مجرد فيلم قديم، يثير التأمل والاعتبار.

ولكن ألن يترجم أيضا عالمه وأفكاره من خلال بطله اليهودى، تتكرر مسألة الديانة اليهودية للبطل، وتقدم ملامح العائلة اليهودية بصورة ساخرة، بل إن بوبى يكتشف أن العاهرة التى طلبها فى هوليوود قتلا للفراغ والملل، هى أيضا يهودية، وتكتشف فيروينكا هايز أن بوبى يهودى، فيسبقها إلى السخرية بأنه لا يمتلك قرنين فوق رأسه، والأخ بن يتحول قبل إعدامه إلى المسيحية، لأن اليهودية لا تفترض وجود عالم آخر بعد الموت.

يظهر واضحا أن أسئلة وودى ألن الشخصية عن الهوية الدينية، وعن الصراع بين الحلم والواقع، و عن عالم ما بعد الموت، قد ترجمتها الحكاية، وفى كل الأحوال لا تتوقف السخرية فى كل الاتجاهات، ومن أفضل مشاهد الفيلم فى هذا المجال لقاء بوبى بالعاهرة الشابة، التى تصادف أنها يهودية، والتى هى اصلا ممثلة فاشلة فى هوليوود، ولكنها قررت أن تكون عاهرة، وكان بوبى زبونها الأول!

«كافيه سوسايتى» يجمع بين تحليل المجتمع والفرد والعواطف والطائفة الدينية معا، صورة العظيم فيتوريو ستورارو جعلت عالمى هوليوود والملهى مثل الكارت بوستال، وأسماء نجوم السينما ومنازلهم الفاخرة مدهشة، ولكن ما يبقى فى الذاكرة هو وجه بوبى، ووجه حبيبته القديمة فيرونيكا فى حفلين متباعدين فى نهاية الفيلم، ذلك أنها النهاية الصادمة، التى تجعلنا نفتقد نهايات أفلام هوليوود السعيدة.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات