حديث البذاءة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حديث البذاءة

نشر فى : السبت 5 يوليه 2014 - 5:05 ص | آخر تحديث : السبت 5 يوليه 2014 - 5:05 ص

صَدَّقَ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين منذ شهرين تقريبًا على قانون يُجَرِّم استخدام الكلمات البذيئة داخل روسيا. مِن المُفتَرَض أن يتم تفعيل القانون خلال الشهر الجاري، بحيث تُطَبَّق غرامات مادية على أصحاب المناصب الحكومية، وعلى المواطنين العاديين أيضًا، حال استخدامهم كلمات «بذيئة» فى المحافل العامة. يمنع القانون الجديد إعطاء المواد الثقافية والفنية رخصة العرض؛ إذا ما احتوت هى الأخرى على تعبيرات تُعَدّ «بذيئة».

تساءلت وأنا أتابع الخبر؛ كيف يمكن قياس البذاءة؟ مَن الذى سَيُحدد معناها وتعريفها ومِقدَارها، ومَن الذى سيُصَنِّفُ العبارات والكلمات والصياغات ويفرز المُباح من المُجَرَّم؟ قيل أن بوتين سوف يستعين بعلماء اللغة وخبرائها، وأنهم سوف يقررون طبقًا لمعاييرهم الخاصة ما هو مقبول وما هو غير مقبول. رغم موضوعية الاقتراح لم أستسغ قرار بوتين.

•••

فى حوار مع صديق ينتمى إلى الندرة المتحدثة -حتى وقتنا هذا- بعربية فصيحة، عرضت الأمر كطُرفة. طُرفة الزعيم المُتَحَكِّم فى كل شيء، حتى ما يتفوه به الناس، الراغب من خلال سن القوانين والتعليمات وتوقيع العقوبات؛ فى السيطرة على اللغة والقبض على ألفاظها. قلت ضمن ما قلت إن حال اللغة لدينا أيضًا لا يَسُرّ. يصفها المهتمون والدارسون فى أيامنا هذه بالانهيار والانحطاط. عاتبنى الصديق منفعلا، فلم أدرك سبب الانفعال، لكنه أشار إلى إنّ اللغة لا يجوز أن توصف بكونها بذيئة أو منحطة؛ فاللوم يقع على مستخدميها، منهم صاحب العبارة المهذبة الأنيقة ومنهم صاحب الفظاظة والقول الشاذ. أدركت بعد تفكير إن المفردات وحدها هى محايدة بريئة، لا منطق بالفعل وراء إسباغ صفات النبل أو الشرف أو الانحطاط أو الرداءة أو البذاءة عليها.

•••

البذاءة فى المعجم هى الكره، أما الكلمات التى قد نعتبرها بذيئة أو كريهة فمجرد مفاهيم وألفاظ توافق الناس عليها، ولا تحمل فى أصلها ما يشين. يوصف أحدهم بأنه «متعفن» والعفن فطر من الفطريات، وبأنه كلب أو حمار؛ وكلاهما حيوان، وأنه نتن و«النتانة» مجرد وصف للرائحة الخبيثة، وقد يُهَانُ شخص بعبارة تذكر عضوًا أو أكثر من جسد أمه، وما العضو بمذنب بل هو السياق الذى زُجَّ به فيه، والمتحدث الذى صاغ العبارة، وألقى بها دون تَحَسُّبٍ أو تشذيب.

مع إعلان الرقابة الأمنية على الفيس بوك والبريد الإلكترونى وما فى حكمهما، صادفت هاشتاج عنوانه دون حذف أو تخفيف: «#‏احنا_متراقبين_ك.._الضابط_عل_الامين»، ووجدتنى أتساءل من البذيء هنا؟ أهى اللفظة المذكورة فى حد ذاتها، أم صانع الهاشتاج، أم الذين استجابوا له؟.. الواصف، أم الموصوف الذى استدعى غلظة وفجاجة العبارة أم المشاركين؟.. أحدهم أم جميعهم؟ كثيرًا ما طالعت على مواقع التواصل الاجتماعى تعليقات لأشخاص أعرفهم حق المعرفة، أعيتهم اللحظة المزعجة عن إيجاد تعبير مناسب يشفى الغليل، تجاوز غضبهم وإحباطهم الكلمات المألوفة، فراحوا يبتكرون ما قد يجعلهم فى نظر الكثيرين مستحقين للنعت بالبذاءة.

•••

تذكرت حديث البذاءة هذا فى لقاء قريب جمعنى بزميلات الكتابة. قالت إحداهنّ فى حوار تقليديّ عن الأحوال العامة وما آلت إليه بعد الحراك الثورى المُبتَسَر؛ إننا نعيش «لحظة مُبتَذَلَة». فكرت قليلا وتساءلت بينى وبين نفسى إن كانت اللحظة مُبتَذَلَة أو إننا نحن أصحاب الابتذال.

قفز إلى ذهنى انفعال الصديق ودفاعه عن اللغة، فآثرت مِن فورى الاعتراف؛ لا اللغة التى نستعملها معيبة، ولا اللحظة التى نعيشها رديئة؛ إنما بأيدينا جعلنا «البذاءة» و«الابتذال» ضرورة من ضرورات العصر الجديد؛ مِنا مَن يصنعهما ومَن يُشارِك فيهما ومَن يَتَذَمَّر منهما، وقليلون هم مَن يَتَمَكَّنون مِن الإفلات. كعادتنا نُلقى باللوم على ما دوننا؛ ولا ينفك البيت الشعريّ يَصدُقُ مع بعض التجاوز: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات