الإرهاب وميراث كامب ديفيد - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإرهاب وميراث كامب ديفيد

نشر فى : الإثنين 6 مارس 2017 - 10:40 م | آخر تحديث : الإثنين 6 مارس 2017 - 10:55 م

للإحاطة بجذور الإرهاب الأسود الذى يفتك بسيناء ثمة حاجة ملحة للعودة إلى بنود الملحق العسكرى لاتفاقية كامب ديفيد المبرمة بين الرئيس السادات وإسرائيل عام 1979. فالإرهاب السرطانى المتفشى فى أرض الفيروز، والعاصف أكثر من مرة فى قلب العاصمة، مبعثه عقود طويلة من السيادة المصرية المنقوصة على حدودها الشرقية، فرضتها معاهدة خبيثة غلبت أمن إسرائيل على أمن مصر، فنزعت سلاح سيناء، وأبقت جزءا غاليا من أرض الوطن رهينا لوفاء مصر بالتزاماتها المجحفة، حتى وإن عاد العلم يرفرف، وغنينا فى كل عام «سينا رجعت كاملة لينا».

•••

كان مناحم بيجن يستحق بالتأكيد عاصفة التصفيق التى قوبل بها فى الكنيست بعد عودته من رحلة التوقيع على تلك المعاهدة التى نزعت عن مصر أنيابها ومخالبها. فبنص المعاهدة، لا يجوز لمصر إنشاء أى مطارات أو موانئ حربية فى أى مكان على أرض سيناء، كما لا يجوز لأسطولها استخدام الموانئ الموجودة بها. ولا يجوز لمصر الاحتفاظ شرق قناة السويس وإلى مدى 58 كيلومترا إلا بفرقة مشاة واحدة وعدد محدود من الأسلحة الثقيلة، ولا يسع هذه القوة أن تخطو خطوة واحدة خارج هذا القطاع الضيق المحدد لها والمسمى بالقطاع الطولى (أ).
أما ثلاثة أرباع سيناء، الواقعة شرق تلك المنطقة وحتى الحدود مع إسرائيل، وهى المنطقة التى يعيث فيها الإرهاب فسادا اليوم، فظلت تعانى فراغا أمنيا على مدى عقود. إذ لم يسمح لمصر بالاحتفاظ فيها بأى قوات عسكرية مقاتلة أو مسلحة بأسلحة ثقيلة. ففى المنطقة الطولية (ب)، لا يحق لمصر الاستعانة بأكثر من أربع كتائب من حرس الحدود، على أن يقتصر تسليحها على الأسلحة الخفيفة. وأما المنطقة (ج)، الممتدة بطول الشريط الحدودى من رفح شمالا وحتى خليج العقبة وشرم الشيخ جنوبا، فلا يجوز لمصر أن تنشر فيها جيشها ولا يحق لها الاستعانة فيها سوى بقوات شرطة مدنية، تقوم مقام حرس الحدود ذرا للرماد فى العيون.

•••

نعم، استحق بيجن أكاليل الغار التى وضعها كتاب التاريخ الإسرائيليون على جبهته وهم يسطرون أخبار تلك المعاهدة التى فرضت على مصر أن ترابض على أرضها قوات دولية بقيادة عسكرية أمريكية، قوامها نحو 2000 جندى، للقيام بمهام التفتيش والاستطلاع والمراقبة، للتأكد من التزام مصر بالمعاهدة، فى اختراق صارخ لاستقلال بلادنا الوطنى. أما إسرائيل، فلم تقبل بوجود قوات أجنبية داخل حدودها، ولم تستقبل سوى المدنيين من المراقبين، لا يزيد عددهم عن 50 مراقبا، لتبقى سيادتها على الأرض التى احتازتها غيلة ومكرا سيادة كاملة محصنة، تحميها الولايات المتحدة بكل ثقلها السياسى والعسكرى.

•••

هكذا وعلى مدى عقود، حرمت مصر من حماية حدودها الشرقية حماية عسكرية ناجزة. لتصبح أرض الفيروز مرتعا للجواسيس وعصابات تهريب البشر والاتجار بالسلاح وبالمخدرات وأخيرا جماعات التطرف والإرهاب ومختلف أطوار الدواعش وتنظيماتهم.
ثم راح البعض يشير جهلا بأصابع الاتهام إلى أهل سيناء، وتتعالى ضدهم صيحات التخوين ودعوات التهجير القسرى المتفقة مع رغبات إسرائيل وآمالها. أما الأصوات الأكثر تعقلا وأقل تطرفا فأرجعت تنامى البيئة الحاضنة للإرهاب فى سيناء إلى نقص التنمية والتهميش والإهمال. لكن نقص التنمية والتهميش والإهمال لم يفرز آفة الإرهاب بهذه الصورة فى مناطق حدودية أخرى تمركزت فيها قواتنا المسلحة وأحكمت السيطرة عليها ولم تمنع بإرادة أمريكية إسرائيلية من ممارسة وجودها السيادى عليها. ففى سيناء كان الفراغ الأمنى الذى أحدثته المعاهدة بمثابة كرة الثلج التى راحت تكبر وئيدا لتعمل على التحام عناصر تلك البيئة الحاضنة للإرهاب. فى سيناء، المعاهدة وليس سواها كانت على امتداد الزمان هى الحاضنة.

•••

لست هنا بمعرض تكرار معلومات محفورة فى ذاكرة جيل بأكمله، بح صوت شاعره الجنوبى وهو ينادى «لا تصالح..»، ولست بصدد تعداد مطاوى الخلل الكثيرة والباهظة التكاليف فى معاهدة السلام مع إسرائيل، التى وافق عليها نواب الشعب من دون أن يطلعوا على أى من نصوصها. نعم، فقد وافق البرلمان على المعاهدة فى جلسة 10 أبريل 1979 بأغلبية 328 عضوا فى مقابل 15 عضوا فقط رفضوها، وذلك من دون أن يتم توزيع نسخ من بنود المعاهدة على النواب!
لا لست بمعرض سرد تلك التفاصيل المعروفة، لكنى أجتهد اليوم لبيان ما كان لاتفاقية السلام، بالصورة التى خرجت عليها، من أثر مباشر على ما آلت إليه الأحداث فى سيناء اليوم، وعلى ما يمكن أن تؤول إليه مستقبلا، لاسيما فى أعقاب امتداد يد الإرهاب الداعشى المجرم إلى قلب القاهرة.

•••

«كلما فتحنا معبر رفح، فتحنا أعيننا فى الصباح على انفجار جديد...» بتنا نكرر عادة مثيلة تلك المقولات حتى ألفناها، ولم نعد نستشعر فيها غضاضة، أو ندرك كم تتوافق بصورة مريبة مع ما تروج له الصحافة الإسرائيلية. ولست أدرى هل هى اختراقات استخباراتية لشبكات التواصل الاجتماعى تبث سمومها وشائعاتها ومقولاتها بيننا فنرددها نحن أفرادا وأبواقا إعلامية كالببغاوات، أم أننا حقا بتنا نستبطن تلك الأفكار ونؤمن بها فى توافق أعمى مع أعدائنا.
كيف وصلنا إلى هنا؟ فإلى يوم غير بعيد كانت مشاعر العداء لإسرائيل عاملا أساسيا يوحد العرب رغم كل خلافاتهم، وكانت مساندة الدول العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية نقطة التقاء تتخطى أوجه الشقاق وتجمع بين الفرقاء. كان العداء لإسرائيل هو النفير الذى استدعى اصطفاف مصر والعرب فى ثلاثة حروب ضد الاحتلال الصهيونى. ثم جاءت كامب ديفيد، فعزلت مصر عن محيطها العربى، وعزلت سيناء داخل وطنها عزلة المريض داخل محبسه. ثم دخلنا فى سبات عميق، وبقيت عين العدو ساهرة مترصدة.

•••

«يا عزيزى، سيناء كانت مريضة، لقد تركناها وهربنا.. فحبسوها عنا وحبسونا عنها.. داسوها بالأقدام.. عرضوها فى المعارض والمتاحف والكباريهات.. سيناء مريضة وستبقى مريضة حتى نهتم بعلاجها».
تستدعى المناسبة تلك الكلمات التى كتبها الرائد «محمد حسين يونس» أو الأسير المصرى رقم 51763 لدى الجيش الإسرائيلى فى حرب 67، فى شهادته المؤثرة، المسجلة فى رواية نشرتها دار الشروق بعنوان «خطوات على الأرض المحبوسة». والرائد «محمد حسين يونس هو الموفد على استعجال إلى سيناء عشية النكسة مع نصف كتيبة، الذاهب بتطمينات من قائده على أنها محض مناورة، وعلى أنه «لن يحدث شىء»، وأن الحرب لن تقوم، كما أكد لهم المشير عامر وهو يدق بعنف على المنضدة. ليتلقى الجيش المصرى بعدها بأيام أثقل هزيمة عرفها فى تاريخه حتى الآن، يحكى لنا تفاصيلها الرائد يونس فى كتابه الفريد.

•••

اليوم ما تزال سيناء مريضة، وما برحت مصر تقاتل إرهابا أسود، ألبسته عصا الساحر عباءتنا، وجعلته ينطق بلساننا العربى، ويخرج علينا فى أحلك كوابيسنا بؤسا ودموية. والمؤسف، حين تلقى السمع إلى الصحافة الإسرائيلية فى أعقاب كل هجوم، يتناهى إليك استعلاء كتاباتهم وهم يصرحون بأن إسرائيل قد «سمحت» للجيش المصرى بالانتشار على أرضه وأطلقت يده القتالية فى سيناء خلافا لنص الملحق العسكرى للمعاهدة. وستسـتـفزك حتما شماتتهم المغلفة بغلالة من القلق الكاذب وهم يتعجبون من فشل استخباراتنا فى التنبؤ بالهجمات على مواقع تمركز جيشنا، أو وهم يشككون فى مدى قدرتنا العسكرية على دحر الإرهاب.
لكن الأنكى والأشد إيلاما، هى تلك النغمة المترددة على ألسنة الساسة الإسرائيليين، وفى أعمدة صحافتهم، المحتفية بأن مصر وإسرائيل صارتا فى خندق واحد فى الحرب على الإرهاب، وبأن التنسيق الأمنى قد يتطور إلى تحالف عسكرى عربى لو تفاقم الأمر، ورأت إسرائيل ضرورة للذود عن أمنها المقدس. إذ تنص المعاهدة بوضوح على أن « يتعهد كل طرف بأن يكفل عدم صدور فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو أفعال العنف أو التهديد بها من داخل أراضيه أو بواسطة قوات خاضعة لسيطرته أو مرابطة على أراضيه ضد السكان أو المواطنين أو الممتلكات الخاصة بالطرف الآخر».
لنذكر تصريح وزير الدفاع الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان الأخير الذى أكد فيه أن بلاده قد قصفت أهدافا داخل سيناء ردا على تنظيم داعش، فى تجنٍ سافر على السيادة المصرية. وهو ما سبقه تخطيط مبيت منذ مدة، إذ نذكر قبلها كيف خرج نتنياهو علينا فى أعقاب هجمات الشيخ زويد فى 2015، منددا بصواريخ ادعى إن داعش تطلقها على إسرائيل من سيناء، ملوحا بحق بلاده فى الرد، تحرشا بمصر وتحرفا لقتال. فمثله لا يضيع الوقت ولا يفوت الفرص.
تلك هى المعضلة، فنحن اليوم بين مطرقة وسندان.

•••

فى أعقاب جريمة اغتيال النائب العام، نذكر تصريح الرئيس بأن يد السلطة مغلولة لإنفاذ «العدالة الناجزة». وفى أقل من 48 ساعة أعد مجلس الشعب مشروع قانون الإرهاب الرامى إلى إطلاق يد السلطة من إسارها. أما فى سيناء، فيد مصر مغلولة ببنود معاهدة كامب ديفيد، التى لن تستجيب إسرائيل لمطلب حيوى بتعديلها رسميا استنادا لأسس قانونية عادلة. لن تستجيب لأنه للأسف، ما من أحد سيطالبها بتعديلها، لتستمر أفواج أهالينا المهجرين من العريش ومن الشريط الحدودى، المحملين بأخبار الموت المقبل من الشرق.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات