وهم (الميدان) - باسم زكريا - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وهم (الميدان)

نشر فى : الأحد 8 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 8 أبريل 2012 - 8:00 ص

لا يكاد يخلو الحديث عن الثورة من ذكر لأخلاق الميدان ولروح الميدان ولحالة الميدان.. إلى آخر هذه العناوين التى تحرك الحنين لجمهورية فاضلة نشأت فى ميدان التحرير أو للحظة استثنائية كنا نتمنى ألا تفارقها عقارب الساعة. لا يحتاج الأمر لكثير من التدقيق حتى نكتشف أن هذا الخطاب إنما تنتجه الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، تلك الشرائح التى منها «الشباب الجميل بتاع 25»، فهم الذين يملكون من الوسائل ما يمكّنهم من نشر مفاهيمهم الخاصة وكأنها المفاهيم المعيارية للمجتمع ككل. من ناحية أخرى لا نجد بين أبناء المناطق الشعبية ذلك الحديث الرومانسى عن افتقاد أخلاق الميدان.


تلك الحالة من حنين أبناء الطبقة “العليا” لما يمكن أن نعبّر عنه بـ«أخلاق الحيز العام» إنما تعود لافتقادهم للحيز العام بالكلية. فتلك الطبقة والتى ولدت فى معظمها من رحم الانفتاح، حيث سادت قيم السوق التنافسية، وغاب المشروع الوطنى الجامع وتسارع الجميع وتصارعوا لتحقيق الثراء الشخصى دون حدود، حتى صار هدف مراكمة الثروة هو ما يحدد اتجاه بوصلة القيم المجتمعية فى تلك الفترة، فتعاظم الحيّز الخاص للأفراد على حساب الحيز العام حتى كاد يتآكل؛ فنجد النادى الرياضى ملحقا بالبيت، ومعلمو المدرسة يأتون إلى البيت، بل وحتى الشيخ يأتى إلى البيت بدلا من أن يذهب إليه طالب العلم فى المسجد. وهكذا ابتلع الحيز الخاص المساحات التى من المفترض أن تكون مساحات للحيز العام بامتياز.

 

ولأن الإنسان كائن اجتماعى، ففطرته تأبى عليه إلا أن يبحث عن «الحيز العام» حتى لو كان ذلك البحث ضد منطق تعظيم المكاسب الفردية، ومن هنا جاء انبهار أبناء تلك الطبقة بأخلاق الميدان، وكأنه حالة صوفية ما. غير أن ما فى الأمر أن ميدان التحرير تحوّل إلى حيز عام افتراضى يتشارك الجميع فى ملكيته وفى الانتماء إليه، وهو افتراضى لأن اجتماع الناس فيه لم يكن على خلفية انخراطهم فى علاقات اجتماعية اقتصادية تضمن لهم تجذير انتمائهم لذلك الحيز، فكان ذلك الانتماء انتماء مؤقتا، ولم يكن ميدان التحرير سوى القلب الإعلامى للثورة.

 

•••


على ناحية أخرى، نجد أن أخلاق الحيز العام هى الإطار الحاكم للعلاقات فى مجتمعات المناطق الشعبية، فربما معظمهم كان قليل التواجد فى ميدان التحرير، بل كان دورهم الأهم فى شلّ جهاز الشرطة يوم جمعة الغضب، وحراسة الحيز العام أيام اللجان الشعبية. تهيمن أخلاق الحيز العام على تلك المناطق نظرا لعاملين أساسيين، أولهما وجود العنصر العائلى كمكوّن رئيسى للعلاقات بين أبناء تلك المجتمعات، وثانى تلك العوامل ضعف الإمكانات الاقتصادية لدى معظم أبناء تلك الطبقات مما يحول بينهم وبين تعظيم الحيز الخاص ــ إن أرادوا ــ بل يحتّم عليهم اللجوء لبعضهم البعض فى شئون معاييشهم، فمثلا حين تمرض جارتنا لا تستطيع أن تشترى طعاما جاهزا فيلزم أمى أن تعدّ لها الطعام، ويلزم جارتنا أن ترد إناء الطعام فيما بعد بطعام تعده هى.. وهكذا

 

بداية من جمعة الغضب وحتى التنحّى، فإن ما تغير فى تركيب الحيز العام فى تلك المناطق هو غياب الدولة عنها ــ ولم يكن دور الدولة فى تلك المجتمعات إلا «التفاهم» مع مراكز القوى المجتمعية الذين كانوا فى الغالب من الخارجين على القانون ــ وحين غابت الدولة تحرك الناس بعبقرية وعيهم الجمعى لإدارة الحيز العام إدارة ذاتية عن طريق ما عُرف بعد ذلك باللجان الشعبية، التى لم يقتصر دورها على الحراسة وإدارة الموارد البشرية اللازمة لذلك فقط. بل تولّت أيضا وبشكل بدائى إدارة تبادل السلع خلال فترة حظر التجول، التى إن طالت قليلا لتطوّر الأمر نحو بلورة آليات للإدارة الذاتية أكثر تعقيدا وأكثر كفاءة. بالطبع لم يكن لتلك الإدارة الذاتية أن تتحقق إلا إذا تجاوز الجميع ما يفرّقهم، وقد تحدث الجميع عن تجاوز الاستقطاب الدينى، ولكن حتى الموقف من الثورة لم يكن يفرّق الناس تلك الأيام، فبعض من كانوا يشاركوننا نوبات الحراسة لم يكونوا من المشاركين فى المظاهرات وكانوا ومازالوا من دعاة الاستقرار، لم يمنعهم ذلك ولم يمنعنا من التشارك فى إدارة الحيز العام الذى هو بالتعريف ملك للجميع. ربما يجادل البعض أن ما وحّد الناس هو الخطر الذى كان يتهددهم جميعا، غير أن الحقيقة أن اللجان الشعبية تحوّلت بعد أول يوم إلى حفلات سمر! فليس الخطر ما جمّع الناس بل إحساسهم بالملكية المشتركة للحيز العام.

 

ليس الأمر بتلك الرومانسية، فحتى فى الثمانية عشر يوما لم يكن بتلك الرومانسية، فالغياب الكامل للدولة مع امتلاك الناس للسلاح دفع بعض العائلات لتصفية حسابات قديمة عن طريق معارك سقط فيها بعض القتلى، وفى غير الثمانية عشر يوما فهناك مشكلات أخرى كانتشار المخدّرات مثلا. فهيمنة الحيز العام تخلق نوعا من الإنسانية المشتركة بين أبناء تلك المجتمعات لكنها تظل مجتمعات إنسانية بما فيها من محاسن ومساوئ.

 

لا تنفصل رومانسية وتقديس «أخلاق الميدان» عن كيفية تعامل السياسيين والباحثين مع المجتمعات الشعبية على أنها مجتمعات «الهامش» التى لابد من احتوائها وتدجينها، فالجميع يتعامل معهم على أنهم موضوع للبحث ليسوا بشرا، بل تجد التنميط فى لغة بعض النخب الذين يروّجون لدعاية من نوع «لابد أن نخاطب هؤلاء الناس بلغتهم» وكأنهم كائنات مريخية، تجلى ذلك فى أغنية ثورية قام بأدائها أحد الناشطين على طريقة الأغانى الشعبية المنتشرة بين سائقى الميكروباص والتوك توك. قام ذلك الناشط بأداء تلك الأغنية وأصحبها باعتذارات لأنه اضطر أن يقوم بأداء ذلك النوع من الفن ليخاطب سائقى الميكروباص بلغتهم. ويتناسى هؤلاء الذين يأنفون من نوع الغناء الشعبى الحالى أنهم لا ينتجون موسيقى الرحابنة فيما أعلم!

 

•••


نحتاج جميعا أن نتواضع لنفهم بعضنا البعض، حتى نتفاعل مع بعضنا البعض، وأن نتوقّف عن تكديس البلد فى ميدان التحرير أو أن نحبس أنفسنا فى الثمانية عشر يوما، نحتاج ــ إن أردنا بناء جمهوريتنا الجديدة ــ أن نتحرر من قيود الحيز الخاص ونعيد إنتاج الملكية المشتركة للحيز العام.

باسم زكريا باحث سياسى ومدون
التعليقات