جريمة الفرجة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جريمة الفرجة

نشر فى : الخميس 8 أكتوبر 2009 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 8 أكتوبر 2009 - 9:30 ص

 كان رساما بارعا، وأكثر ما برع فيه هو رسم الغانيات عرايا، لهذا قيل إنه هو من اخترع «البورنوجرافيا» فى اليونان القديمة، والبورنو جرافيا كانت تعنى حرفيا «رسم العاهرات»، وهى على أية حال لم تبتعد كثيرا عن هذا الإطار برغم مرور القرون، وبرغم نسيان مؤسسها اليونانى «بارازيوس»، الذى كانت رسوماته الفاحشة غذاء لجنون الشبق الرومانى فيما بعد، والذى كان بدوره جزءا من جنون أكبر وأشنع، فى إمبراطورية لم تكن غير لحظة جنون فى التاريخ.

كان بارازيوس قد قام بشراء واحد من أسرى الحروب التى لم تكن تنقطع فى زمنه، ليكون «موديلا» له فى لوحة «بروميثيوس مُسَمَّرا» التى طُلِبَت منه لمعبد أثينا، وكان الأسير الذى اشتراه الرسام عجوزا «ليعمق الإحساس بنظرة الرعب التى تسبق لحظة الموت»، وهى اللحظة التى كانت هوسا إغريقيا تحول إلى جنون رومانى على اعتبار أنها اللحظة التى تؤصِّل المثل الأعلى لأبناء الامبراطورية المحاربة، طلاب البطولة والمجد، والذين كان هاجسهم الأكبر هو الحصول على «ميتة جميلة»، ولم يكن الجمال لديهم إلا دمويا وداعرا!

وضع الرسام البورنوجرافى موديله العجوز تحت التعذيب، لكن العجوز لم يَبْدُ له متألما كما ينبغى، فزاد عليه جرعة التعذيب بعد تثبيت يديه بالمسامير، وأثارت صرخات العجوز شفقة المحيطين بالرسام فعبروا عن استنكارهم، لكنه كان مشغولا عنهم بإعداد مساحيقه وألوانه وأدوات الرسم، والتأكُّد من فاعلية سياط الجَلد ونيران الحرق ومسامير الثَقب وسلاسل التكبيل. وكان الرسام يُحفِّز ويُحمِّس الجلاد: «عذبه أكثر، أكثر، ممتاز، فلتبقه هكذا، هذا هو حقا وجه بروميثيوس المتألم بشدة، بروميثيوس المحتضر». واقتطف بارازيوس النظرة المشتهاة، فنيا، قُبيل أن يلفظ العجوز آخر أنفاسه.

هذه الحكاية أضاءت لى عتمة ادعاء يروِّجه البعض، عن ضرورة ابتعاد الفنان أو الأديب عن الاشتباك المباشر مع قضايا أمته، لأن هذا الاشتباك يلوث نقاء الإبداع! وهى مقولة حق فى الظاهر يُراد بها باطل فى الباطن، فمفهوم وواضح أن المباشرة فى أى عمل فنى تُفسد جلال ونقاء هذا العمل، لكن غير المفهوم هو مطالبة الأدباء والفنانيين بعدم إبداء رأيهم المباشر فيما يعيشونه ويعايشونه، وتحديدا كتابة الأدباء مقالات وأعمدة صحفية تتناول مُجريات الأمور.

فهذا الادعاء، على افتراض صدقه، يمثل درجة من درجات وحشية وأنانية رسام البورنو جرافيا الأول وهو يسلخ الأسير العجوز ليحصل على «نظرة الرعب» المطلوبة للوحته، لأن وقوف الفنان متفرجا على عجوز، أو وطن، أو شعب، يتم سلخه، هو موقف مماثل لمن يقوم بالسلخ أو يأمر به، وإن اختلف فى الدرجة، خاصة إذا كان الفنان قادرا على تقديم إسهام مباشر يوقف، أو يعرقل، أوعلى الأقل يفضح حقارة الجَلد والسلخ.

يوسف إدريس، حسم هذا الجدل عندما حاصرته الأصوات، التى لم تكن كلها بريئة ولا صادقة، تطالبه بالكف عن كتابة مقاله الأسبوعى والعودة لكتابة القصص خوفا على موهبته الإبداعية من التآكل فى كتابة المقالات، فقال بطريقته بليغة التجسيد ما معناه أن الأديب عندما يجد نفسه فى بيت يحترق، هل يهرب ويجلس على كرسى أمام البيت ليشاهد الحريق ويسمع صرخات الضحايا ليكتب قصة مؤثرة، أم يندفع ليشارك فى إطفاء الحريق وإنقاذ الضحايا، ثم تأتى القصة أو لا تأتى بعد ذلك؟!

هذه هى المسألة، فنحن إزاء وطن يحترق بالفعل، وأمة يتم سلخها، ونحن داخل هذا الوطن، ومن لحم هذه الأمة، وأضعف الإيمان أن نصرخ، لنردع الجُناة أو نربكهم قليلا، أو على الأقل نلفت الأنظار إلى جرمهم الذى يصعب استكماله إلا فى الظلام والصمت. وهذا فى حد ذاته نوع من المقاومة، ودرجة من درجات التأثير بإعاقة تمادى التدمير. ثم إننا لسنا فى حالة ديموقراطية حقيقية تجعل اقتحام الأدباء والفنانيين لحقل ألغام التعبير المباشر نوعا من المزايدة الضارة بنقاء الإبداع الفنى والأدبى.

تاريخ الأدب العالمى يخبرنا بأن المشاركة بالكتابة والرأى المباشرين، لم يكونا ترفا، بل شرفا حرص على بلوغه مبدعون كبار، فديستويفسكى كان ــ إضافة لرواياته العظيمة ــ يكتب مقالات «يوميات كاتب» بكل الجرأة والعمق، وهيمنجواى كان ناطقا مباشرا بتقارير أحوال الحرب الإسبانية ضد ديكتاتورية فرانكو، وماركيز لم يكف عن الكتابة الصحفية والسعى لنصرة قضايا بلده وقارته بل حتى الحق العربى ضد إسرائيل. وخوان غويتسلو عاش فى سراييفو تحت القصف ليدوى بصوتها المذبوح عبر العالم. وقائمة الشرف تطول.

إنه اضطرار محفوف بالمخاطر لا اختيار محاط بالأمان، ومما لا شك فيه أن التفرغ لحالة الإبداع الأدبى والفنى هو أمتع وأرهف وآمن وأسلم، لكن الاشتباك بالرأى المباشر مع مجريات الأمور فى الوطن، يكاد يكون استجابة غريزية كما صيحات الطير دفاعا عن عشه وأفراخه ونطاق وجوده، ويصبح واجبا فى حالة الكاتب القادر على هكذا كتابة، فليس كل الأدباء ممتلكين لهذه الهبة حتى يسرى عليهم وجوب التكليف..

نجيب محفوظ برغم علو قامته الأدبية الشامخة، كانت مقالاته الموجزة التى يكتبها بنفسه فى الأهرام، أبعد ما تكون عن الجاذبية والتوهج، بينما كان مقال يوسف إدريس الأسبوعى حدثا يكاد يشتعل ويُشعل وجدان القارئ. واعتَرف نجيب محفوظ بذلك عندما اختص مقالات يوسف إدريس بالإشارة ضمن أهم ما يهتم بمتابعته فى الصحافة، هذا لأن نجيب محفوظ كان كبيرا بحق، والكبير لا يستنطع، أى لا يُغالى ولا يتكلّف الادعاء.

شىء أخير هو أن هذا النشاط لدى من يقدر عليه، وتتاح له فرصة إظهاره، إن تجاهله وراوغه، سواء بسبب الأنانية أو الحسابات أو الجبن، سيظهر فى إبداعه حتما، فأعطاب الروح تكشفها الكتابة لا تغطيها، مهما كانت الصنعة حاذقة، ومهما كان (اللّوَع).. لعوبا!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .