قطط وفئران رأسمالية - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قطط وفئران رأسمالية

نشر فى : الثلاثاء 9 مارس 2010 - 9:54 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 9 مارس 2010 - 9:54 ص

 وأنت تصعد إلى ثانى أدوار كلية لى كوان يو للسياسة العامة بسنغافورة، يفاجئك هذا القول المأثور للزعيم الصينى الراحل دنج شياو بنج مكتوبا بحروف سوداء بارزة كبيرة على ظهر الجزء الثانى من السلم: «لا يهم اذا كان لون القط أسود أم أبيض طالما يصطاد الفئران».

وها هى سنغافورة، التى اصطادت رأسماليتها كل الفئران الممكنة منذ استقلالها عام 1965 لتتحول من جزيرة صغيرة محتارة فى هويتها على تخوم ماليزيا وإندونيسيا، إلى دولة بلا أمية ولا بطالة تحتل المرتبة الخامسة عالميا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلى وتمتلك احتياطيات قيمتها 170 مليار دولار، تعيد النظر فى عدد الفئران التى تصطادها، ونسب النمو التى تحققها فى عالم الرأسمالية الجديد المأزوم.

البرلمان السنغافورى بدأ يوم الثلاثاء الماضى مناقشة ميزانية العام الجديد. لكن على غير ما اعتدنا عليه فى مصر، لم تشهد المناقشات حوارات تمتد إلى سمعة أمهات النواب أو مساراتهم المشبوهة إلى مقعد المجلس، وإنما نقاش غريب علينا، ومدهش فى نفس الآن، حول تراجع الانتاجية فى الجزيرة، وكيفية تلافى هذا الوضع.

الغريب فى هذا النقاش، الذى مازال دائرا بمشاركة سياسيين ونقابات وشركات، فى دولة معروفة بسيطرة مستبد مستنير يتجسد فى العقل المفكر للتجربة لى كوان يو، هو انه مبنى على تحليل اقتصادى عميق لوضعية سنغافورة بين شريحتين من منافسيها، الاولى اكثر تقدما بمنتجات أكثر تعقيدا وإنفاق أكبر على البحث والتطوير كاليابان، وأخرى تمتلك ميزات تنافسية أعلى فى التكلفة، خاصة فيما يتعلق بالعمالة كالصين والهند. ليس هذا فقط بل إن قلب النقاش يدور حول مستقبل نموذجها الاقتصادى، «الذى ركز على النمو وتجاهل الانتاجية ومكاسب العمال»، على حد تعبير مشروع الموازنة.

المشكلة التى تناقشها سنغافورة ببساطة هى أن معدل الإنتاجية فى البلاد، التى تمتلك بالكاد اى موارد غير بعض البترول ويسكنها 5 ملايين نسمة تجعل منها اصغر دولة فى المنطقة، لم يزد سوى بـ%1 فقط سنويا على مدى العقد الماضى. ويقارن مسئولو سنغافورة أنفسهم فى هذا الإطار بالدول التى سبقتها فى الإنتاجية، وهى على وجه التحديد: الولايات المتحدة والسويد واليابان وفنلندا وبريطانيا. فالعامل السنغافورى (70% من الاقتصاد خدمات و30% صناعة) ينتج فقط 63% مما ينتجه مثيله الأمريكى وإن كان يتفوق على منتجى هولندا وألمانيا وكوريا الجنوبية وإيطاليا وإسبانيا ودول الآسيان الأربع ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وتايلاند. لم يلم صانعو التجربة الأزمة العالمية التى ضربت بالفعل الاقتصاد المعتمد على الصادرات 3 مرات منذ منتصف الثمانينيات متسببة فى دورات كساد ورواج. ولم يلوموا أيضا نقص معدل الخصوبة الذى يجبرهم على استضافة مليون من الخمسة من الأجانب ليعملوا فى اقتصاد البلاد النامى. وإنما لاموا ضعف القدرة الإنتاجية بسبب ضعف الاهتمام بتطوير قدرات المنتجين والابتكار.

أما الحل الذى تطرحه موازنة سنغافورة فهو خطة لزيادة الإنتاجية بما بين 2 و3% سنويا، تسمح بحسب الحكومة برفع دخل المواطنين بالثلث خلال 10 سنوات. وفى كل الرأسماليات فإن زيادة ساعات العمل وزيادة انتاجية العامل بالساعة هى طريقة اساسية لزيادة أرباح الشركات، وزيادة التنافسية الرأسمالية للنظام ككل. إلا أن وضعية سنغافورة تضعها فى مأزق. فهى فى نفس الوقت مضطرة لرفع نوعية المنتج لكى يكون تنافسيا، وهو ما يقتضى الإنفاق على التعليم والتطوير من ناحية، ورفع تكلفة اعادة انتاج العامل لقدرته على العمل: ببساطة رفع أجره.

لهذا لم تترك سنغافورة لقططها، المحاصرة بانكماش فى اقتصادها بسبب الأزمة العالمية وصل لحدود الـ3% فى 2009، المساحة لافتراس العمال وأجورهم لزيادة هوامش الأرباح، كما سيكون مبررا وأمرا حتميا فى بلادنا إذا حدث تطور اقتصادى أقل حدة حتى.

تدرس سنغافورة دعم الصناديق الموجودة بالفعل بمليارات الدولارات السنغافورية لمساندة العمال الأقل أجرا، الذين سيكونون مضطرين لرفع إنتاجيتهم. وهذا الإجراء ليس نتاج رحمة أو شفقة او انتماء اشتراكى. بل نتاج وعى بأن الأمل الوحيد فى استمرار معجزة سنغافورة هو إعادة الاعتبار للسياسة التى صاغها كوان يو حتى منتصف الثمانينيات واعتمدت على التصنيع والتنمية البشرية والانتباه لتطوير وتعليم الأقل أجرا فى البلاد.

تتوقع الحكومة السنغافورية أن يعود الاقتصاد للنمو فى 2010 بنحو 3.5%، وإن كان مستقبله سيظل لصيقا ومعتمدا على ما يحدث فى الرأسمالية العالمية، التى تحدد فى المحصلة النهائية حدود هذا النمو المبنى فى نهاية الامر على اتصال وثيق بالعالم، والتزام بمعايير الإنتاج الرأسمالى، ونظامه العالمى، مهما اختلف لون قططها.

وزير الاستثمار المصرى محمود محيى الدين، الذى لا يخفى اعجابه مؤخرا بالتجربة الخاصة فى شرق آسيا، المعتمدة على دولة قوية ونموذج مغاير لرأسمالية حرية الأسواق اللا محدودة، لا ينفك يكرر قول شياو بنج المأثور عن القطط والفئران. ويستخدم الوزير، فى السنتين الماضيتين اللتين قضتا على الطابع المقدس لإجماع واشنطن، المثل للتدليل على ان الالتزام بأيديولوجية أو نموذج اقتصادى بعينه دون غيره ليس هو الموضوع وإنما لبه هو ما إذا كان هذا النموذج ناجحا أم لا.

أما ما رأيناه من قطط رأسماليتنا، فهو أنها على تعدد ألوانها، تفترسنا قبل ان تفكر، وتفترسنا قبل أن تعلم، تفترسنا دون أن تنتج تقدما ولا تنمية. وفى هذا لا أعتقد أن أحدا منا سيكترث بأى لون صبغت نفسها.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات