بيونس آيرس - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 1:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيونس آيرس

نشر فى : السبت 11 أبريل 2009 - 5:03 م | آخر تحديث : السبت 11 أبريل 2009 - 5:03 م

 فى حوار تليفزيونى أجراه الإعلامى الفرنسى البارز «بيرنار بيفو» والمتخصص فى الأدب، مع الروائى الأرجنتينى «أرنستو ساباتو»، وذلك أثناء زيارة «بيفو» للأرجنتين خلال مسابقات كأس العالم لعام 1978، تحدث ساباتو عن روح المكان، فأطال الحديث عن روح بيونس آيرس. وارنستو ساباتو هو فيزيائى ورياضى وروائى أرجنتينى ولد عام 1911، حصل على الدكتوراه فى الفيزياء من جامعة لابلاتا، ثم عمل بعدها ولمدة عامين فى معهد «كورى» فى باريس، وذلك فى الثلاثينيات من القرن العشرين، ليعود بعدها إلى بيونس آيرس لاستكمال أبحاثه فى مجال النسبية والتدريس بجامعة لابلاتا.

وفى عام 1945يقرر ساباتو ترك مجال العلوم والتفرغ للكتابة الأدبية. وقد كتب منذ ذلك الحين ثلاث روايات: النفق ــ عام 1948، وأليخاندرا ــ عام 1961، وملاك الظلمة ــ عام 1974. ورغم قلة إنتاجه الأدبى فإن تأثيره على الساحة الأدبية فى أمريكا اللاتينية وفى العالم كبير جدا. ماذا قال ساباتو عن روح بيونس آيرس؟ ثلاث كلمات: التانجو، إمبراطورية اللغة، وكرة القدم. قال: إن روح المدينة تختلف عن روح الإنسان. ولكن بالتأكيد المدن تمتلك روحا، كباريس وروما، وأيضا لدى بيونس آيرس روح خاصة بها لا يمكن أن تجدها فى مكان آخر بالعالم. فبيونس آيرس لها طريقة معينة فى استنشاق الحياة، لها ولا شك رؤية خاصة ترى بها الدنيا والناس. ولا يمكن الحديث عن بيونس آيرس دون سماع أغانى التانجو ترقص فى الأذن. يقول «ساباتو» على لسان أحد شخصياته فى روايته «أليخاندرا» أن التانجو رقصة جادة جدا، التانجو عميق إلى الدرجة التى تجعلنا نفكر بروية فى حياتنا. وأثناء الرقص يصل الإنسان إلى أصفى لحظاته وأكثرها صدقا.

فالتانجو بالنسبة إلى ساباتو هو ميتافيزيقا الشارع فى بيونس آيرس. نتصور دائما أننا من الممكن أن نرى كلمة الميتافيزيقا فى الأبحاث والدراسات والرسائل الفلسفية، خاصة الألمانية منها. ولكن فى الحقيقة المكان الدائم للميتافيزيقا هو فى الشارع. فهذه الكلمة المعقدة والبسيطة جدا فى نفس الوقت مرتبطة كما هو معروف بالمشكلات الكبرى للوجود، وفى الأسئلة حول الحياة والموت والوحدة وغيرها، وكل ذلك هو ما يواجهه رجل الشارع يوميا، وهى بالضبط الموضوعات التى يناقشها التانجو عبر أشعاره المغناة. ويضيف ساباتو: بالطبع التانجو العظيم. تانجو «كارلوس جاردل» الذى وصل بأغانى التانجو إلى قمم لا يمكن إعادة تسلقها، بعد أن توفى فى حادث طائرة عام 1935 فوق أراضى كولومبيا. أما كلمات أغانى التانجو فكلها مكتوبة بلغة شوارع بيونس آيرس. مكتوبة باللغة الدارجة الخاصة بالمدينة. وفى هذه اللغة أيضا تنبض روح العاصمة. فإمبراطورية اللغة فى بيونس آيرس خصبة كأراضى القارة اللاتينية التى تمنح العالم رئتيه، عريضة بعرض القارة، حيث ينهل الناس من حروفها المتأججة بالشعر وهم يرقصون، رغم أن العنصر الإفريقى الراقص دائما لا يتعدى فى هذه المدينة 2% من تعداد السكان الذى يبلغ أربعة عشر مليون نسمة معظمهم من أصول إسبانية وإيطالية.

ترقد بيونس آيرس على الضفة الغربية لنهر «ريو دى لابلاتا» الذى يفصل الأرجنتين عن الأوروجواى. وتطل على المحيط الأطلنطى. وتعد أكبر مدينة وأكبر ميناء فى البلاد. أسماها المستعمرون الإسبان «الثالوث المقدس وميناء السيدة العذراء للهواء العليل»، وبقى الهواء العليل كاسم لها. وهناك وأنت تستمتع بالهواء العليل عليك أن تأكل اللحم المشوى.

وإذا طلبت من النادل فى المطعم سكينا بعد أن ترى قطعة اللحم العملاقة فسوف يعتبر أنك أهنته إهانة عظيمة، فلحم الأرجنتين يقطع بالشوكة دون أى جهد، وهو أطعم لحم فى العالم مع كل الاحترام للحم «الكوبيه» اليابانى. ولا يمكن أن تلتهم هذه الوجبة دون أن تشرب المته وهو مشروب ساخن غريب المذاق، ولكنه شراب بيونس آيرس الشهير الذى يشرب طوال النهار فى شوارعها.

وفى شوارع بيونس آيرس المتعامدة والمتقاطعة كلوحة الشطرنج يرقص الناس التانجو وهم يلعبون كرة القدم. ورغم أن خورخى لويس بورخيس ــ وهو من ألمع كتاب القرن العشرين، وعاش عمره المديد فى بيونس آيرس مثل ساباتو ــ صرّح قبل بدء كأس العالم فى الأرجنتين بأن كرة القدم لعبة الأغبياء فقط. فإن ساباتو علّق على ذلك ساخرا بقوله إن بورخيس لم تلمس كرة قدميه أبدا، ومن حقه إذن أن يقول فيها ما شاء. ثم يستكمل ساباتو حديثه عن كرة القدم فيقول: إن هذه اللعبة تشكل نهرا من أنهار روح بيونس آيرس. وصحيح أن كرة القدم لا تتعلق بالتأكيد بالميتافيزيقا مثل الشارع الذى تلعب فيه، ولكنها رياضة رائعة ومركبة وتتعلق بالأساس بالقوة المعنوية كسرعة الفعل ورد الفعل، وقوة الشخصية والإقدام والقدرة على إعمال الخيال.

ولكن، بدأ التانجو العظيم فى الخفوت، وبدأت اللغة هى الأخرى تفقد بريقها، أما كرة القدم فقد فقدت أسسها المعنوية، كما فقدت الخيال فى مقابل القوة. هل ستفقد بيونس آيرس روحها كما فقدتها مدن كثيرة أمام العولمة؟

خالد الخميسي  كاتب مصري