عبارات يومية - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 4:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبارات يومية

نشر فى : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:20 م

منذ بدأ العدوان على غزة، صارت هناك جمل بعينها تتكرر على مسامعنا يوميا، ونحن نتابع على الهواء مباشرة تحول المدينة إلى مقبرة هائلة عامرة، ونتأكد أن الموتى وحدهم هم من يقولون الحقيقة، فى ظل وجود روايات كثيرة وتفاصيل متباينة. تفقد الكلمات معناها ونحن نشاهد الطائرات تدك الناس من أعلى، ونساء مغلفات بجلاليب داكنة حزينات ومقهورات، أغرقت الدموع وجوههن الذاهلة، تهرول إحداهن نحو المستشفى حاملة طفل ينزف وهى تعلم أنه قد لا يصمد سوى ساعات...
ينطلق صوت المذيع معلنا ككل ليلة تقريبا أن «منطقة جحر الديك، جنوب القطاع، كانت ضمن الأماكن المستهدفة». نتابع الفيديوهات الخاصة بالاشتباكات فى هذه القرية الصغيرة التى يلمع دائما اسمها مع الأحداث، فقد سبق أن نالت نصيبها من الدمار فى 2009 و2014 خلال هجمات أقل وطأة من التى تتعرض لها الآن، لكنها تموضعت على خريطة العنف الإسرائيلى الممنهج فصرنا نعلم أنها تقع على بعد 8 كم من مدينة غزة، وعلى بعد كيلومتر واحد من الخط الأخضر الذى يحدها شرقا، أى عن الأراضى المحتلة عام 1948، ويحدها غربا شارع صلاح الدين الذى يربط بين شمال وجنوب القطاع.
بالطبع صور دبابات الميركافاه وغيرها من المعدات العسكرية التى تنصب لها الكمائن كتائب القسام لا تظهر فيها تفاصيل أكثر عن القرية الزراعية الحدودية التى كان يقطنها نحو خمسة آلاف نسمة، ولا تعبر عن حجم التناقضات التى ارتبطت بها. الواقع المرير يقول إنه كلما يزرع الفلاح أشجار الزيتون والحمضيات والخضراوات، إذ تعد تربتها من أخصب الأراضى، يأتى الجيش الصهيونى ليقتلعها أو يحرقها، وفى النهاية لا يستطيع المزارعون الرحيل لأنهم لا يعرفون مهنة أخرى ولا يريدون ترك أملاكهم، فيعيشون فى بيوت متناثرة، مع وجود القليل من الخدمات: مركز صحى واحد ومدرسة للبنات وآبار ارتوازية للرى، فمعظم المياه مالحة بسبب حفر الجانب الإسرائيلى للآبار على طول خط الهدنة من جهة الشرق، ذلك بالطبع فى الأوقات الطبيعية.
وعلى بعد أمتار من رائحة الخضرة يوجد المكب الأكبر للنفايات فى القطاع، بمحاذاة السياج الفاصل. كان يتسلل إليه المزارعون ليلا للحصول على ما يسمى «السوائل الراشحة للنفايات» واستخدامها كأسمدة بديلة عن المواد الكيماوية والعضوية التى يمنع الاحتلال دخولها. عائلات معدودة ذات أصل بدوى (النباهين ــ عويدات ــ أبو مكتومةــ أبو سعيد) تتقاسم الأراضى، ويحتاج غالبا التنقل من مكان إلى آخر لإذن من كبرائها بحسب العرف السائد فى «جحر الديك» التى كانت قديما ممرا للتجار يلجأون للمبيت فيه ليلة الجمعة قبل التوجه إلى السوق صباحا مصطحبين بضائعهم. وهذا هو سر التسمية، إذ ترجع لحادثة دخول أحد ديوك التجار إلى جحر بأحد التلال، اختفى تماما ولم يجده صاحبه رغم محاولات البحث المتكررة. كان التجار يرجعون كل أسبوع يتفقدون الجحر حتى أصبح اسم المكان «جحر الديك». بغض النظر عن واقعية التسمية، لكن واضح أنه كتب على القرية أن تكون جحرا للمتسللين.
• • •
ينتظر الناس جملة أخرى تسللت إلى الروتين اليومى تأتى على لسان أبو عبيدة، الناطق الرسمى باسم القسام، حين يعلن عن تحطيم معدات عسكرية إسرائيلية، مضيفا: «سنعرض جانبا من عظمة مجاهدينا وقتالهم للعدو واصطيادهم لآلياته». صار الناس يترقبون ظهور «الملثم أبو الكوفية» ومفاجآت «جحر الديك» وغيرها من المناطق، وصارت مشاهد الحرب يتم متابعتها كالمسلسلات الدرامية، وهو شىء غريب ومؤلم، لكن هذا هو واقع الأمر فالصورة أصبحت جزءا لا يتجزأ من أدوات الصراع. تحول أبو عبيدة إلى بطل شعبى غامض تجتهد وسائل الإعلام للكشف عن هويته وتتبع مسيرته منذ ظهوره الأول الذى يرجعه البعض لسنة 2002، ثم اختياره عام 2006 كمتحدث رسمى للجناح العسكرى لحركة حماس. لفت الانتباه بثباته واعتبره البعض صوتا للمقاومة وهو يخاطب أحرار العالم ووجهه مغطى بشماغ أحمر وزى عسكرى يحمل علم فلسطين على الذراع اليسرى.
ذكرت بعض الصحف العبرية أن اسمه الحقيقى هو حذيفة سمير عبدالله الكحلوت، حاز على درجة الماجستير عام 2013 من كلية أصول الدين بجامعة غزة الإسلامية حول موضوع «الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام»، ويعد الدكتوراه فى ذات السياق. تتناول المواقع المختلفة روايات حول أصل عائلة الكحلوت: هل أتت إلى فلسطين من تركيا عام 850؟ أم من كردستان؟ أم من شبه الجزيرة العربية؟ ثم قال قائل إنها تنتمى لمناطق العرب فى تركيا، وجاء أفرادها ضمن حملة صلاح الدين الأيوبى، استقر جزء منهم فى مصر والأكثرية وصلوا إلى فلسطين ومعهم غنائم كبيرة من الحرب وقاموا بشراء الأراضى فى قرية نعليا بقضاء القدس قبل أن يزيلها الاحتلال أثناء النكبة، واشتهروا بالتدين والكرم. حكايات العائلة الكبيرة المتشعبة والتى يروى أن عدد أفرادها يبلغ عشرين ألفا تزيد من غموض الملثم أبو الكوفية.
• • •
مع تقدم ساعات الليل، نكون على موعد مع جملة أخرى تسبقها عادة صور متلاحقة لمسعفين يهدئون من روع الأطفال، ورجال يريدون أن يحتضنوا ذويهم مرة أخيرة ويكتفون أحيانا بالمسح على رءوسهم، حين يخر واحد منهم على ركبتيه ويتوسل إلى الله باكيا... تشتعل السماء بعدها وتنطلق جملة عاجلة: «إطلاق عشرات القنابل المضيئة فوق غزة، مع استمرار القصف استعدادا لمعركة برية متوقعة». معنى هذه العبارة هو وقوع المزيد من القتلى والجرحى وهى تنذر بكارثة وقرب تنفيذ عمليات هجومية جديدة. بعد قطع التيار الكهربائى وفصل القطاع عن العالم حرفيا، تقوم القنابل الضوئية بإنارة عتمة الليل للتصويب تجاه الهدف بشكل صحيح. ذخائر متفجرة تسقطها الطائرات، مصممة للانفجار فوق الأرض وإحداث وميض ضوئى ساطع للغاية، قد يربك الطرف المستهدف أو يشل حركته ويفقده الرؤية فى بعض الأحيان، فلها أنواع وأشكال متعددة. نستمع إلى الآباء وهم يحاولون إقناع صغارهم أنها ألعاب نارية وليست قصفا، ونعرف نحن أننا سنتابع المزيد من مشاهد الموت الممسرح.
• • •
يعلو صوت سيدة وتتكرر على الألسنة جملة واحدة تلخص كل شىء: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، أملا فى أن يجيرهم الله ويجيب دعوة المظلوم، فهناك شعور عام بتخلى العالم عن أهل هذه المنطقة، بل والتحالف ضدهم، وهو ما قد يفضى إلى صراع حضارات بين الشرق والغرب إذ استمر الأمر على هذه الحال. يصبر أحدهم نفسه ويقول إن رائحة المسك تفوح من الشهداء، فى حين لا يوجد أى ارتباط شرعى أو دلالة منطقية على ذلك، فهو شم زائف لرائحة المسك القوية التى لا تنبعث من جثث الشهداء فى الدنيا، بل جاءت فى وصف العلماء ليوم القيامة. تسير السيدة منحنية بين الأنقاض، وتصرخ: «حسبى الله فيكم يا دول».

التعليقات