عواصف وصحافة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عواصف وصحافة

نشر فى : الإثنين 12 ديسمبر 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 12 ديسمبر 2016 - 9:50 م
فى قاعة عرض سينمائية فى بلاد باردة مرفهة بعيدة، احتميتُ من عاصفة الثلج غير عابئة بالفيلم المعروض. فإذا بحظى السعيد يسوقنى لمشاهدة فيلم Spotlight الحائز على أوسكار هذا العام، للمخرج توماس مكارثى. يحكى الفيلم قصة التحقيق الصحفى الضخم الذى نشرته صحيفة بوسطن جلوب عام 2002، والذى كشفت فيه عن تعمد الكنيسة الكاثوليكية التستر على فساد فى أروقتها، تَمثَّل فى التحرش بمئات الأطفال على مدار أربعة وثلاثين عاما! وهى الفضيحة التى أدت إلى استقالة «برنارد لوو» كاردينال بوسطن، وإلى فتح التحقيق فى هذه القضية الشائكة على مستوى كنائس العالم !

الجميل فى هذا الفيلم أنه لا يركز على الفضيحة فى حد ذاتها بقدر ما يقدم صورة للصحفيين الذين توصلوا إلى هذا الكشف، ولأدق تفاصيل هذا النوع من الصحافة الاستقصائية الباحثة عن الحقيقة والمنتجة لسرديةٍ تعرى مخازى الحاضر وجراح الماضى تمهيدا لمحاصرتها ومداواتها، وتعزيزا لأهمية سلطة الصحافة فى الحفاظ على مجتمع حر ديمقراطى آمن.

***

الفيلم فيه ملامح من تحفة سينمائية قديمة أسست لهذه النوعية من الأفلام الذكية الجادة هو فيلم «كل رجال الرئيس» الذى حكى قصة محررين فتيين انطلقا ذات يوم فى رحلة استقصائية لإسقاط أقوى رجل على وجه الأرض، عبر كشف الصحفيين بوب وودوارد وكارل برنستين لتفاصيل فضيحة «ووترجيت» التى أطاحت بالرئيس نيكسون.
لكن تفرد فيلم Spotlight يكمن فى التفاصيل: كيف طرح عليهم رئيس التحرير الجديد الموضوع، كيف وضعوا الفرضيات المبدئية، وتحروها بدقة وأناة وحذر، كيف تعاملوا مع الضحايا برفق وإنسانية، وسعوا وراء الجناة بحرص ومسئولية، وقضوا الساعات فى المكتبات وأضابير مؤسسات القضاء. كيف سعوا لأن تكون جميع إجراءاتهم قانونية، واستفادوا من ثغرات القانون ومن المتاح من المعلومات العلنية. لتقودهم نتيجة البحث إلى حقيقة واضحة وضوح الشمس، ألا وهى تورط جميع مؤسسات السلطة وأطياف المجتمع فى المسئولية الأخلاقية التى استتبعتها هذه الجريمة. فلقد كان الجميع على علم بها لكنهم آثروا الصمت إزاءها. بداية من مشرعى القوانين ومطبقيها فى دوائر الشرطة، بل وأسر الضحايا الذين أخرستهم سلطة الكنيسة وألجمهم الإحساس بالعار، وحتى بعض أفراد الجماعة الصحفية الذين علموا بالأمر وتباطأوا عن إجلاء الحق طوال عقود تفاقمت خلالها الجرائم وتضاعفت أعداد الضحايا وسقطت العدالة.

***

المضحك المبكى كان كيفية تفاعلى مع أحداث الفيلم. فطوال مدة العرض، ظللتُ أترقب المشهد الذى سيتم فيه التنكيل بأى من أفراد فريق العمل الصحفى، أو تصدر فى حقه مذكرة ضبط وإحضار بتهمة تكدير السِلم العام، أو تتم ملاحقته قضائيا بتهمة ازدراء الأديان، أو تُعد العدةُ لإدانته جنائيا ومصادرة أمواله، وإعفائه من منصبه، والتعلل بخروجه فى إجازة مفتوحة ليتم منعه لاحقا من السفر. ظللت أترقب ذلك المشهد الذى يخرج فيه إعلام مضاد «وطنى النزعة» يوزع اتهامات العمالة ويكيل الشتائم ويحترف التشويه والتحريض؛ أو ذاك المشهد الذى يتم فيه حشد عصابة «المواطنين الشرفاء» من حول مقر المطبوعة المجترئة أو نقابة هؤلاء الكتبة المارقين، أو يتم فيه القبض على نقيبهم والزج به فى السجن بتهمة جنائية. وبدلا من ذلك كله، فوجئت بالفيلم ينتهى بخروج نسخ الصحيفة من المطبعة كأرغفة الخبز الطازج، وبنشر القصة الصحفية كاملةً ونجاحها فى تبديد مناخ التكتم، وتفنيد أكذوبة أن الفساد ما هو إلا حالات فردية، بل ونجاح هذا الاستقصاء فى الوصول بمدى التأثير إلى حدود الفاتيكان لقرع أجراس الحقيقة، والانتصار للضحايا، فى يوم تجلت فيه العدالة بوجهها الأنقى، لم يكن يؤرق فيه أصحابَ الكشف الصحفى الضخم، وهم يحتفلون ويتشاطرون مذاق الإنجاز، سوى وخز فى الضمير المهنى مفاده: «لماذا تأخرنا كل تلك السنين فى إجلاء الحق، وقد كانت كل الخيوط فى أيدينا؟».
شاهدت الفيلم بذهنية الآتى من شرق المتوسط، وبأعين القادم من بلداننا المنكوبة بما سماه أورويل «وزارة الحقيقة»، من بلداننا التى يعز فيها تمكين المواطن من المعلومة، وتنعدم فى غالبيتها النصوص القانونية الملزمة بالحق فى المعرفة، ويجاهر فيها الفساد بوجوده ولا يجد مع ذلك من يجرؤ على الإشارة إليه. فإذا ما حاول أحدهم كشفه أو رصد أرقامه أو الاقتراب من دوائره، تمتد الأيدى إلى التنكيل به، والنيل من سمعته، وتهديد حريته.

***
خرجت من دار العرض، لا أرى بأسا فى مواجهة عاصفة الثلج، فهى أقل شأنا من عواصف النيران المشتعلة فى ديارنا. ورحت أتساءل: إلى متى يستمر هبوب الرياح العاصفة بالصحف والأقلام؟ وهل تتقصد العواصف فى هبوبها الجماعة الصحفية وحدها أم هى رياح غاشمة تقتلع ما ومن يعترض طريقها؟ هل لهذه الصحافة الاستقصائية مستقبل فى بيئة واقعة بين سندان الجهل ومطرقة إرادة التجهيل؟ أتراها أملا حقيقيا أخيرا لإيقاظ الوعى وعودة الروح؟
أسئلتى تشبه أسئلة «على طه» بطل «القاهرة 30» وهو يوزع منشوراته فى نهاية الفيلم. أسئلة تثير الرثاء وتبعث السخرية، لكن لا بأس من طرحها.

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات