ذريعة حقوق الإنسان - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذريعة حقوق الإنسان

نشر فى : الأربعاء 15 فبراير 2012 - 9:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 15 فبراير 2012 - 9:20 ص

هناك اتفاق عام على أن أى تنظيم مجتمعى جدير بالاعتبار، عليه أن يوفر لأعضائه حقوقهم كاملة غير منقوصة، وأن تكفل هذه الحقوق تمتع كل منهم بالحريات الأساسية التى تمنحه وضعه اللائق بين أقرانه، ليس فقط لأن هذا يمثل كسبا معنويا ورضا نفسيا باعتباره كائنا خصه الخالق بنعمة الإدراك ليستخلفه فى أرضه، بل ولأن هذا يجعله عضوا عاملا فى تشييد صرح مادى دائم الارتقاء، ليساهم المادى والمعنوى معا فى بناء حضارة دائبة التجدد. هذه الحقوق والحريات تتفاعل فى شبكة العلاقات الإنسانية، أى أنها تمثل فروضا على المجتمع، يتوجب حسن أدائها حتى ينعم كل أعضائه بها، ومن ثم تتوازى الحقوق والواجبات.

 

بينما اهتم أهل الشرق بالواجبات والفروض تهذيبا للنفوس، حتى يفعل كل فرد ما يفيد الآخرين، فتعود عليه الفائدة من مجمل أفعالهم الخيرة، فإن أهل الغرب أقاموا مجتمعاتهم الأولى على أساس الاستعباد حيث استغرقوا فى تقديس امتلاك المقومات المادية للحياة، فامتلكوا الأرض ومن عليها، وتنازعوا واقتتلوا من أجل توسيع ممتلكاتهم. وتجلى التمييز الطبقى الذى حصر متع الحياة فى طبقة النبلاء فتحول باقى المجتمع إلى عبيد ورقيق. وعندما انتشرت المسيحية انضمت إليهم الكنيسة لتنال نصيبا من ثرواتهم مقابل كسر إرادة الرعية بدعوى نشر السلام فى الأرض. وإذا كان هذا يتوافق مع اقتصاد يقوم على الموارد الطبيعية، الزراعية والمنجمية، حيث يربط العاملين بالأرض ويخضعهم لأصحابها، فإنه لم يكن ليتفق مع أنشطة إنسانية أخرى، حرفية أو تجارية. وازدادت أهمية هذا البعد عندما قامت الثورة الصناعية، وارتفع شأن ملكية رأس المال على ملكية الأراضى، وتطلب الأمر تحرير إرادة الأعداد الغفيرة من المستعبدين، لينتقلوا بإرادتهم من مكان إلى آخر للقيام بالعمل الذى يحتاجه رأس المال، ولكى يكسبوا ما يمكنهم من شراء منتجات الصناعة التحويلية، بعد أن كانوا يأوون إلى الأرض فيأكلون ويلبسون مما تنتج، ويلوذون بجانب منها، فيما يشبه جحور الحيوانات.

 

●●●

 

وتبع ذلك اهتمام العلماء الاجتماعيين بتأكيد حقوق الإنسان وتخفيف حدة الفوارق بين الطبقات وما يستدعيه ذلك من تخفيف قبضة الكنيسة التى تجاوزت الأصول الدينية السليمة، ومضوا فى ذلك بعيدا إلى إضفاء شرعية على حقوق السادة الجدد المنتمين لطبقة الرأسماليين، وهو ما قاد فى النهاية إلى إكساب ربح رأس المال موقعا متميزا لأنه السبيل إلى تمويل مبتكرات تبدعها عقول المخترعين، وتوسيع قاعدة الإنتاج ليصبح فى متناول الجميع. ومن ثم أكسبت حرية الفرد فى ممارسة النشاط الاقتصادى مكانة عالية، وارتبط بها حرية السوق وشيوع المنافسة الحرة ثم العادلة. الغريب أن هذه الحقوق ظلت مرتبطة بالإنسان الأبيض، فاستباحت استعمار دول تتوافر بها موارد طبيعية تغذى عجلة الصناعة، وتفتح أسواقا جديدة، وكأن الإنسان فيها له حقوق. وهكذا لم يتوقف الاستبداد والاستعباد، بل ازداد شراسة عبر الحدود. وظلت هذه هى العقيدة الغربية الثابتة إلى يومنا هذا فى ظل الاستعمار الجديد. وعندما أراد هتلر أن يطبق قانون تعظيم الجنس الآرى على حساب غيره بما فيها باقى الجنس الأبيض حتى تتوسع القاعدة الصناعية الألمانية، اقتيد العالم كله إلى حرب ضروس معه ومع حلفائه من الإيطاليين (حيث بدأ الفكر الفاشى) واليابانيين.

 

وحتى يأمن الغرب الرأسمالى تكرار الحروب، قاد العالم إلى تبنى إعلان حقوق الإنسان والحريات الأساسية فى 1948. وأقيمت منظومة عنوانها الليبرالية، وهى لفظ مشتق من مفردة الحرية، عمادها حرية الفرد، وجوهرها سيادة السوق ليتخذ الغرب الرأسمالى اسما له «اقتصادات السوق الحرة» الذى يستنكر ما تتبعه الدول الاشتراكية من تخطيط مركزى. وعندما طولبت الدول النامية بالاقتداء بها، انتشر الظلم وتبدى قصور ذلك النظام عن توفير متطلبات التنمية. ومع ذلك جرى التحول إلى الليبرالية الجديدة مع التعتيم عليها بما يسمى إقامة «أسواق صديقة للإنسان» بدلا من البدء بالإنسان ذاته وإقامة أسواق ملبية لاحتياجاته. غير أن الثورة السلمية المصرية فتحت الباب أمام شعوب الدول المتقدمة لتوسع نطاق تعبيرها عن سوء أحوالها وضياع حقوقها من مجرد حركات احتجاجية تقام حول منتديات دولية مثل دافوس، إلى رفض لقواعد إدارة شئون الدول حاملة لواء، أو بالأحرى فزاعة، حقوق الإنسان. ومع ذلك يدعى رئيس الوزراء البريطانى أنه «لم نضع أى اعتبارات زائفة لحقوق الإنسان إذا ما هُدد أمن الدولة»، لتبادر محامية حسن عبدالرحمن بالقول إنه «لو تعاملت الشرطة بالعنف مثل إنجلترا لما وصلنا لما نحن فيه الآن» فيشيد القاضى بأدائها والتزامها المهنى؟! (الشروق 11/2).

 

وعندما أراد الأوروبيون إقامة اتحادهم، اشترطوا احترام حقوق الإنسان للانضمام إليه، وهو أمر يبدو مقبولا حتى لا تتسلل إلى اتحادهم دول ترتضى قمع الشعوب، فتنتشر العدوى للاتحاد فيتفتت. بل إنها سارعت إلى ضم دول نفضت عنها رداء الديكتاتورية بدءا باليونان وإسبانيا والبرتغال فى الثمانينيات، وسعت إلى إعادة تأهيلها اقتصاديا لتتجنب الردة فى نظامها السياسى، ولكن بقدر لم يكف لتجنب تدهور اقتصاداتها مؤخرا. وحينما كانت مصر تتفاوض مع الاتحاد الأوروبى حول الشراكة الأورومتوسطية، حذرت فى دراسة قدتها إلى «مجلس أوروبا» من إدراج شرط احترام حقوق الإنسان فيها، ليس إنكارا لها، ولكن لأن تلك الدول تنتهج قمع الدول النامية سبيلا إلى تعزيز مكاسبها منها. وهى تتقبل الأنظمة القمعية فيها طالما تتدنى بالأجور فيها لفائدة المستهلك الأوروبى. وتثير مشاكل الأقليات وحقوق الإنسان، ليس رغبة فى حمايتها بل لكسر إرادة أنظمة تتذلل لها بقهر شعوبها.

 

●●●

 

يبدو أن القاعدة العامة فى الليبرالية الجديدة التى تبشر بها تلك الدول هى إعلاء شأن الفرد على شأن المجتمع، سواء مجتمعاتها المحلية، أو مجتمعات الدول النامية. وحينما صيغت مواثيق حقوق الإنسان العالمية جرى التركيز على الحقوق السياسية حتى تظل الحكومات مستكينة لرغبات أفراد تجذبهم مصالح عبر الحدود، تفوق ما يتحقق لهم من حرية المواطن، عاملا كان أم مستهلكا. ورغم أن الجمعية العامة المتحدة لم تخل قراراتها فى أى سنة منذ نشأت عن المطالبة بتلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات النامية، ومناشدة الدول المتقدمة بتقديم المعونات غير المشروطة لمعاونتها على تسريع وتيرة التنمية البشرية فيها، فإن صوت الدول المانحة يعلو فقط عند المساس بحقوق فرد، خاصة إذا كان يردد آراء تتفق ودعاواها.

 

وحينما رفعت الثورة المصرية شعار الحرية المصحوبة بالعيش والعدالة الاجتماعية، كانت تهدف إلى حرية الفرد والمجتمع معا، بما فى ذلك الحق فى التنمية. ورفضت حصر الحقوق فى دفع منظمات المجتمع المدنى لإيقاف ختان البنات، والدفاع عن مجرد حرية دون بيان السبيل إلى كيفية تفعيلها بما يخدم تحقيق أهداف الثورة. ويبدو أن المسئولين عن الفترة الانتقالية أصابتهم العدوى أو استعاروا مقولة مبارك «خليهم يتسلوا» بالتركيز على حقوق الرفض: حق التظاهر وحق الاعتصام ومؤخرا حق العصيان، ليكون الحق الوحيد المؤكد هو حق الاستشهاد. إن مجتمعا يريد إعادة بناء نظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجب أن يوفر له مناخ تتحاور فيه الأحزاب والمنظمات المدنية حول دستوره، حتى لا تقف عند مجرد مساندة أفراد تنتهك حقوقهم، بل تنشغل برسم الطرق المؤدية لتحقيق حقوق الأفراد والمجتمع معا بمختلف جوانبها وكيفية توفير متطلباتها.

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات