كانت الضيعة غارقة فى الاستقطاب «الإسلامى المسيحى»، وبدت الجراح وكأنها مازالت تنزف، الفارق بين شواهد القبور المحفور عليها الصليب ودعوات تعزية السماء، وتلك التى تتزين بالقول الكريم «إنا لله وإنا إليه راجعون»، لا تزيد على سنتيمترات قليلة، النساء يتشحن بالسواد وكل منهن تبكى من واراهم الثرى.
من تلك اللحظة ومن قلب الإيمان المسيحى بالرقاد على رجاء القيامة، والإيمان الإسلامى بذات الرجاء فى رحمة الله وحقيقة العودة إليه، صاغت «نادين لبكى» المادة الأولى فى دستور ضيعتها، إذا كان مصيرنا واحدا وينتهى فى باطن هذه الأرض، يصبح أول ما يجمعنا هو «وحدة المصير».. إذن فالمادة الأولى: «مواطنو هذه الضيعة يتشاركون فى وحدة المصير»، وإذا كنا نتشارك فى حقيقة الموت فلنقاوم من يرفض منا أن نتشارك واقع الحياة ومشوارها.
لكن كيف نتشارك فى حماية الحياة وبيننا من يريد أن يعيش وحده، وإذا ما اعترف بحق غيره فى الحياة أراد له أن يعيش تابعا أو تاليا وليس شريكا، كانت تلك معضلة تواجه الضيعة المقسومة بين مسلمين ومسيحيين، وبين رجال ونساء.. تشارك الرجال من الجانبين فى إطلاق الشعارات الوردية لكنها كانت تسقط أمام أول أزمة عابرة، قد ترتكبها «معزة ضالة» تكسر تمثالا لـ«العدرا» أو تلوث سجاد المسجد، وعندما تشتعل توافه الأزمات تخرج من الصدور المنافقة الكراهية المخفية.. كل طرف كان يطلق معسول الكلام فى العلن وتحركه الكراهية فى الخفاء التى تصل إلى أن كل طرف كان يخزن الأسلحة استعدادا لمعركة مع الطرف الآخر.
لكن النساء على عكس الرجال كان هناك حزن يجمعهن لا يردن تكراره، عرفن بعد قدر غير معلوم من الدماء والحزن أن المصير واحد وأن هذه الحياة لابد أن يوضع لها دستور جديد يجمع ولا يفرق يبنى ولا يهدم، لا يميز بين الناس بأديانهم، وهو دستور يستحق النضال من أجله، حتى لو اضطرت أم إلى أن تخفى نبأ موت نجلها الشاب الذى قتله «مسلمون» خارج الضيعة حتى لا تحرك الكراهية أهله للانتقام الأعمى من المسلمين داخل الضيعة، وحتى لو اضطرت النساء للتآمر على رجالهن للوصول إلى مخازن السلاح وتفريغها حتى لا يجدوه عند أى مواجهة، وحتى لو بذلن كل جهد لحجب محطات التليفزيون التى تذيع أنباء الفتنة الطائفية الطاحنة فى لبنان، و«قصقصة» أخبار الفتنة من الصحف القليلة التى تصل للضيعة، حتى لو أصلحت امرأة مسلمة تمثال «العدرا» ونظفت امرأة مسيحية سجادة المسجد.
أمام المقابر وقف الرجال يسألون نساءهم: «وهلا لوين»؟ ولم يكن السؤال يحتاج إلى جواب فى ضيعة بنت دستورها على «وحدة المصير والعيش الواحد».. اسمعوا نادين وهى تغنى: «يمكن لو فى بينى وبينك حلم كنا غفينا.. يمكن لو فى بينى وبينك سلم كنا نسينا.. يمكن فى طريق جديد بينى وبينك نحنا مش شايفينا»، وابحثوا عن الحلم والسلم والطريق الجديد.
لا لدستور المرشد.. نعم لدستور نادين.