وأطاحت الثورة بالنظام.. فماذا بعد؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وأطاحت الثورة بالنظام.. فماذا بعد؟

نشر فى : الأربعاء 16 فبراير 2011 - 11:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 16 فبراير 2011 - 11:40 ص

 حينما نادت ثورة 25 يناير بإسقاط النظام، منحته صفة لا يستحقها بأى حال.. فهو لا يمكن وصفه بأنه كان نظاما، بل لعل الوصف الذى ينطبق عليه هو أنه كان ثورا.. يتباهى بجسده الذى يجثم به على أنفاس 85 مليونا، فإن تململوا بطش بهم بحوافره، وإذا خوطب رد بخوار يظنه يعلو على أى صوت يصدر، سواء من ناصح يتطوع بالنصح لا يبغى جزاء ولا شكورا، أو من صاحب مظلمة ــ وما أكثر المظالم ــ يبغى استرداد حق سلبه عبدة الثور، الذين يحركون رأسه الخالى من أى عقل ليردد عبارات لا يفقه معناها. وإذا بميتادور حديث السن نحيل القوام راجح العقل يصوب نحوه حصاة تصيبه فى مقتل.. لينهار راكعا على أقدامه، بعد أن عجزت قوى البطش التى أطلقها فى وحشية وخسة ونذالة على فلذات الأكباد الذين يتفانى فى رعايتهم كل أب وكل أم ويختزنون فيهم كل آمال المستقبل، وتتفطر قلوبهم حسرات إذ ينهب الثور ورعاته حقوقهم ويدفعونهم إلى طريق الفساد دفعا، فلا يجدون فيه نفعا.

ولعل الله أراد أن يجعلهم عبرة لمن لا يعتبر.. فجاء أداؤهم نموذجا للغباء الذى هو صفة كل مستبد أحمق، يستحقون الشكر عليه كل الشكر. فحينما وجهوا رصاصاتهم وقنابلهم وهراواتهم إلى صدور فتية عزل لم يحاولوا الإمساك حتى بما يدافعون به عن أنفسهم، فتحفر دماء من سقط منهم شهيدا أو خر جريحا، سطورا لن تمحى من وجدان كل مصرى لعقود طويلة قادمة.

كان ذلك أول شهادة للثورة أنها صيحة للبناء لا للفوضى والهدم. وجاءت الشهادة الثانية بانسحاب الأمن، رغم تجاوز حجمه المليون وربع، لتؤشر إلى أن الثور بات يفزع أمام عشرات ملايين من الثوار.

لو أنهم بضعة آلاف فلماذا تنسحب أمامهم تلك الجحافل التى انضم إليها آلاف السجناء، ومنهم من حبس بتهمة الإرهاب؟ لقد أضافت هذه الخطوة البشعة إلى رصيد الثورة فى الطرق والميادين، كل أبناء الشعب الذين تمترسوا لحماية أسرهم وممتلكاتهم، فحكموا بذلك على الشعب بأن ينضم بأكمله إلى الثورة حتى ولو كانوا متشككين فى نتائجها. وجاءت المماطلات فى خطابات الرئيس وقصور مضمونها وركاكة تعبيرها لتستنفر مشاعر الإحباط التى كانت تملأ الناس أسى من إغلاق كل أبواب التغيير بما فيها باب الثورة، فقوت عزيمة المترددين على المضى فى هذه الثورة ناصعة البياض حتى نهايتها. وجاءت مسرحية التنحى لتفجر مشاعر الغبطة العارمة، ولتحقق لى أمنية أشكر الخالق عز وجل عليها وهى بقائى لأراها وأسمعها وأهنئ أحفادى على ردهم الاعتبار لوطنهم وكل الأوطان المتطلعة للحرية.

إن ما حدث هو ملحمة رائعة يمتزج فيها الخيال والواقع، اللذان يشكلان مسرحين مختلفين للحدث الواحد تربط بينهما الثورة التكنولوجية التى تشكل معالم العصر الذى يقف العالم على مشارفه. فما شهدته مصر فى الفترة الأخيرة هو إنشاء فئة جاهلة واقعا تعلم أنه مرفوض من الأغلبية الساحقة، ولكنها تتوهم أنها تستطيع فرضه عن طريق إكسابه وجها افتراضيا تظن أن بريقه يأخذ الأبصار ويخلب الألباب. وهكذا أطلقت الفرية تلو الكذبة وانتهى الأمر بها إلى أنها ذاتها صدّقت الصورة التخيلية، لتنفصل عن الواقع بعد أن ظنت أنها خدعت الشعب. على الجانب الآخر كان هناك فتية حصلوا على قدر من العنصر الذى دانت له الأمور فى عصرنا هذا وهو المعرفة، ولو بالقدر المحدود الذى تيسره لهم الجامعات المصرية، وتابعوا تنميته بالركن الآخر وهو التعلم الذاتى الذى مكنهم من توظيف مبتكرات التكنولوجيا خير توظيف.

قام هؤلاء بسلوك الاتجاه المعاكس، فبنوا عالما افتراضيا أحالوه إلى واقع، كان لا بد من تحققه لأنه يتفق ورغبات الملايين التى كانت صفرا فى الواقع الذى أسىء افتراضه. وفتحوا بذلك ساحات واسعة أمام منهج لو طبق فى مختلف جوانب الحياة لأحال حياتنا من النقيض إلى النقيض فى غمضة عين. أسعدنى ذلك لأنى كنت قبل عقدين من الزمان ممن اعتبروا أن التنمية البشرية تنطلق من عطاء بشرى يقوم على إبداع يكسر القيود المادية والمعنوية، وليس على عملية أخذ تدفع إلى اللهث وراء التراكم الرأسمالى، وعبادة المال والاستثمار، وقياس التنمية بمعدلات كتلك التى ظن أحمد عز أنها تنطلى على شعب يعانى شظف العيش، والتى ينشغل بها وزير استبعدت مهمة التخطيط من لقبه واقتصرت تسميته على وزير دولة للتنمية الاقتصادية، بعد أن أحيلت التنمية الاجتماعية إلى وزارة تطبق مفهوم الرعاية الاجتماعية للمحتاجين.

إن ذلك التغيير لم يكن مجرد إعادة توزيع الاختصاصات، بل كان إعلانا صريحا بنبذ التخطيط القومى كعملية مجتمعية، تقوم على رؤية تشارك فى بنائها كل فئات المجتمع، وحصر الأمر فى رأس الثور، بما يسمى بيان الرئيس، ثم التضليل والتدليس بقياس إنجازاته بالزمن الذى انقضى منذ إعلانه. إن المغالطة القائمة على وصم التخطيط المركزى بأنه يحصر كل شئون الدولة بيد الحكومة، تقوم على الخلط بين التخطيط المركزى والإدارة المركزية التى كانت لازمة للدول الشيوعية فميزت بين نوعين من التخطيط: طويل المدى مختص بالتنمية والتطوير الهيكلى والوظيفى، وقصير الأجل (سنة فأقل) الذى يضع الخطوات التنفيذية اللازمة لتسيير شئون الدولة وتوفير متطلبات التنمية.

إن المرحلة الحالية تفرض قراراتها وإجراءاتها على متطلبات الانتقال من عهد الاستبداد إلى عهد الحرية التى تصح فيها الدعوة إلى «ارفع رأسك يا أخى، فقد مضى بحق عصر الاستبداد». لقد قدم الشباب الواعى قائمة مطالب الثورة وشروط التغيير المنشود، والتى تفرض المهام الثلاث التى ذكرتها فى مقالى السابق: استكمال تطهير البلاد من أذناب النظام السابق ــ إعادة تعمير ما خربه على مدى 30 عاما و18 يوما ــ إعادة بناء المجتمع بكل مرافقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنظيف منظومته الثقافية مستعينين بالرصيد الهائل من قيم التعاضد والتكافل التى أقامت قاعدة صلبة لترسيخ أسس المواطنة التى خلنا أنها تحتاج إلى أجيال لغرسها فى النفوس. والآن وقد نزعت صورة رأس الثور من جدران مجلس الوزراء والمصالح الحكومية، أقترح أن تحل محلها صورة رمزية لشهداء الثورة يحملون شعلة الحرية وراية الأمن والسلام البيضاء.

إن هذه المهام الحيوية والعاجلة التى سوف تدور حولها حوارات مكثفة، يجب أن تنظم فيها كل أطراف الشعب على نحو منظم. لذلك يجب إعادة بناء نقابات العمال والفلاحين وفق أسس سليمة، حتى لا يتطاول عليهم الذين يتهمونهم بالجهل وفقدان الإدراك بشئون وطن تتحول فيه نتائج سواعدهم وعقولهم إلى أرقام فى الدخل القومى. كما يجب دعم الحركة التعاونية لتصبح قادرة على مراقبة الأسواق وتحويل الأسعار إلى منظومة تكفل للمواطنين الحصول على احتياجاتهم بكلفة عادلة، لا أن تقف فى طابور أرقام تقيس معدلات التضخم تجود به قرائح عباقرة المتلاعبين بالأرقام.

وإذا كانت تلك مهام لا تحتمل التأجيل، فإن ما لا يجب الانشغال عنه هو إرساء مشروع نهضوى بوضع إستراتيجية للتنمية الشاملة لربع القرن المقبل.

ويقتضى الأمر رد الاعتبار لوزارة التخطيط لتدور عجلتها جنبا إلى جنب مع معهد التخطيط القومى الذى يحاصر فى مجموعة من الندوات والتقارير

للاستهلاك المحلى دون أن تجد طريقها إلى صنع القرار. إن هذه العملية يجب أن تسير بالتوازى مع الأمور العاجلة، وتتفاعل معها، لتكون جاهزة بنهاية الفترة الانتقالية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات