نورا وأسئلة اليرموك - داليا سعودي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نورا وأسئلة اليرموك

نشر فى : الخميس 16 أبريل 2015 - 9:50 ص | آخر تحديث : الخميس 16 أبريل 2015 - 9:50 ص
ــ أستاذة... معذرة... لماذا تتخيرين لنا نصوصا مؤلمة إلى هذا الحد...؟

ــ سامحينى يا نورا... لكن هذا هو عالمنا، قاسٍ ومتجهمٌ. انحسر فيه هامش البهجة، وتغيرت ملامح النظام الإقليمى، فباتت الألوان العادية أشد قتامة...

جرى ذلك الحوار القصير قبل نحو عام، فى محاضرة الترجمة السياسية، حين هممنا بتحليل نص عن المحنة الإنسانية الناجمة عن حصار مخيم اليرموك الفلسطينى فى دمشق. وكانت الصورة الشهيرة التى بثتها وكالة «رويترز» وقتها تتصدر الصفحة ملخصة المأساة: آلاف من الخلق المصطفِين على مد البصر، وسط خرائب البنايات المهدمة، فى انتظار وجبة غذاء توزعها المنظمة الإغاثية. كم أمقت تلك الصور! الرءوس مُطرقة مستسلمة، وعظام الوجوه بارزة، واللونُ الرماديُ يطغى بدرجاته، مع أن الصورةَ كانت بالألوان الطبيعية !

كان ذلك قبل عام، حين كانت المساعدات الإنسانية المتقطعة مازالت تجد طريقها إلى داخل المخيم، وقبل أن يدخله تنظيم الدولة فى الأسبوع الماضى، ويفعل فيه أفاعيله.

فماذا عساها أن تقول نورا اليوم؟

•••

الحصار والتجويع والضرب بالمنجنيق، نفس أسلوب تيمور لَنك فى غزو دمشق عام 1401م، هو بعينه ما اتبعه نظام الأسد فى تركيع شعبه وإشعال الحرب المعقدة التى تفتك بسوريا منذ أربع سنوات. ولنا فى مخيم اليرموك نموذجٌ إدراكى.

لا أعلم السر وراء ولع العربى بتسمية هزائمه المريرة باسم أعظم انتصاراته الغابرة. لكن الأرجح أن اسم «اليرموك» الذى أُطلق على المخيم المقام فى أعقاب نكبة 48 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين كان يحمل وعدا مبطنا بالنصر والعودة واسترجاع الكرامة. وبالفعل انطلقت من المخيم شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وكان أبناؤه وقودا لاستمرار هذه الثورة، على أمل إحراز «يرموك» معاصرة أخرى. لكن التضاد الصارخ بين الاسم والمسمى يبدو اليوم طافحا بالسخرية.

•••

المأساة فى تصاعد مفزع منذ استيقظ أهل المخيم فى أواسط شهر ديسمبر 2012، على قصف مسجد عبدالقادر الحسينى بالصواريخ، والمجزرة التى راح ضحيتها عددٌ كبير من النازحين الذين كانوا يحتمون بالمسجد، يومَ أعلن جيش النظام الحصار المشدد.

انتشرت الدبابات. قُطعت إمداداتُ مياه الشرب. قُطعت الكهرباء فى أيلولٍ أسود آخر من عام 2013. راحت السماء تمطر براميل متفجرة. مُنعت المساعدات الإنسانية. لا طعام ولا دواء ولا حليب أطفال. حصص الغذاء القليلة التى تسربت سرقها الشبيحة بالليل. بيع الأرز بـ 100 دولار للكيلوجرام والعدس بـ 80. أكل الناس الحشائش والقطط النافقة. وظهر فى الطرقات شبحٌ قمىء المنظر عفن الرائحة، أخذ ينمو ويتمدد، يُقال له الجوع...

لم يكن ذاك الجوع القدرى الذى ظهر إبان الشدة المستنصرية، حين غاض النهر وشحت الغلال وبات الناس يأكلون الكلابَ والحمير قبل أن يلتهموا بعضهم البعض. بل كان ذلك الجوع الذى يستصحب حرافيشَه اللئام: الرعبَ والقهرَ والإهانة ومن شابههم. لعله الجوع ذاته الذى اتخذه النازيون سلاحا فى معسكرات «آوشفيتز» و«دخاو» و«تربلينكا». ذلك الذى يكشف فى الإنسان عن أسوأ ما فيه، ويجرده من إنسانيته، ويشعره بانحطاط الذات، فيدفعه لقبول الابتزاز والركون إلى الاستسلام. الدراسات النفسية التى أجريت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية تؤكد: سلاح الجوع يقتل الروح، ويفل العزيمة، ويُغلب النزعة الفردية، ليطفئ أى بصيص للمقاومة فى الصدور. بهذا السلاح ضُربت معظم الشعوب العربية من قبل لتصمت. وضرب به اليرموك لتهيئة المجال إما لرفع الراية البيضاء أو للإبادة الجماعية.

ومضى عامان على الحصار، وقضى رهائن المخيم قصفا وقنصا وقهرا. عامان شبعوا فيهما جوعا، ولم يرفع المخيم راية النظام، التى يطلبها الأسدُ من البلدات ليكف عنها بطشه، مثلما كان تيمور لنك يطلب من الشعوب المستسلمة تقديم «الطقزات»، من طعام وشراب وماشية وملابس. لكن من قدم المال والطعام والسلاح كانوا مقاتلى داعش. حاولوا فى البداية تجنيد عناصرٍ من داخل المخيم ولم يفلحوا. فبذلوا عطاياهم فى منطقة الحجر الأسود جنوبى اليرموك. فباعت المعارضة المسلحة المخيم. فالجوع والخيانة صنوان.

•••

أكاد أسمع أسئلة نورا فى أذنى.

كيف دخل الدواعش إلى المخيم رغم استحكام الحصار؟

هل كان لداعش أن تدخل اليرموك من دون موافقة الأسد ومباركته؟

من أين أتوا بكل هذه المؤونة من غذاء وذخيرة وأسلحة ثقيلة فى هذه البقعة المحاصرة؟ لماذا حرقوا علم فلسطين عندما دخلوا المخيم؟ لماذا سمَوه «علم الفتنة»؟ لماذا دهسوه بكل هذا الغل بالأقدام؟

وماذا لو سقطت آخر دفاعات اليرموك أمام داعش؟

كيف يُعقل أن تكون الصحافة الإسرائيلية أسبق إلى إدانة الوضع المتردى فى اليرموك ولو على سبيل الرياء؟

لماذا باتت كثير من أفعال أنظمتنا تتوافق إلى هذا الحد مع المشروع الصهيوني؟

لمَ هذا السعى لتسييد الحالة الفلسطينية على كامل الوطن العربى، لتصبح كل أوطان العرب بين نازحين ولاجئين؟

•••

سؤال واحد ظل عالقا فى ذهنى وانقبض له صدرى: هل فى المخيم أطفال؟

3500 طفل لايزالون رهائن داخل المخيم. أذكرهم وأحاول عبثا أن أطرد من ذاكرتى مآل أطفال دمشق عام 1401م، بعد أن دمر تيمور لنك المدينة وقَتَل أهلَها وظلت الحرائق مشتعلة فيها طوال ثلاثة أيام. فأمر الملك المغولى الأعرج بجمع الأطفال دون سن الخامسة، لتسحقهم سنابك الخيل تحت أسوار المدينة. وحين استنكر أمراؤه فعلته، قال لهم: «انتظرت الرب أن ينزل فى قلبى الرحمة بهم، لكنها لم تنزل... أنا غضب الرب فى أرضه، يسلطنى على من يشاء».

•••

الصورة بشعة؟ ومخيلتى سودواية؟

الجوع ورفاقه يفعلون ذلك كل يوم!

•••

اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أوطاننا يا رحمن!

•••

الصورة الفائزة بجائزة منظمة الأونروا لعام 2014، للمصور الفلسطينى نيراز سعيد. صورة «الملوك الثلاثة»: الباكى والبائس والحائر بين الغضبِ والشرود. هم لا ينتظرون ميلادا ولا قيامة. بل تراهم ينتظرون خروجا آمنا من مخيم اليرموك.
داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات