انبطحوا واحموا رءوسكم لقد تعبت الرحمة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انبطحوا واحموا رءوسكم لقد تعبت الرحمة

نشر فى : الخميس 17 يونيو 2010 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 17 يونيو 2010 - 9:25 ص

 الضابط والطبيب النفسى الأمريكى فلسطينى الأصل، نضال مالك حسن، والبالغ من العمر 39 عاما، عندما فتح النار على زملائه ومرضاه وآخرين بقاعدة فورت هود العسكرية بولاية تكساس ظهيرة يوم 5 نوفمبر 2009، قتل 13، وأصاب 30، ثم سقط جريحا فى تبادل لإطلاق النار جرى لإيقافه، وتم نقله غائبا عن الوعى إلى أحد المستشفيات العسكرية حيث وُضِع على جهاز للتنفس الاصطناعى بوحدة الحالات الحرجة، وظل طويلا فى غيبوبة لم يخرج منها إلا مشلول الأطراف فاقد النطق.

وبينما كان نضال فى غيبوبته، وضحاياه يتم تشييع بعضهم وعلاج الإصابات الخطيرة للبعض الآخر، سرت قشعريرة فى جسد أمريكا، وعبّر الرئيس الأمريكى أوباما عن ذلك بقوله «إنه تفجُّر رهيب للعنف»، وثار جدل حول العالم عن بشاعة الجريمة والأسباب التى تختفى وراءها، البعض فى الغرب سارع كالعادة بإلصاق الجريمة بالتطرف الإسلامى، والبعض لدينا رحب بها كانتقام من أمريكا المتغطرسة، بينما طالب العقلاء بالتريث وعدم استباق التحقيقات، أما الطب النفسى، فقد كان له رأى آخر.

تمت دراسة شخصية الطبيب القاتل، والظروف التى سبقت قيامه بالمجزرة، وتبين أنه أعزب، ابن لأبوين فلسطينيين متوفيين، هاجرا من قرية قريبة من القدس قبل مولده، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية التحق بالجيش، وفى الجيش أكمل تعليمه الجامعى، وقُدِّمت له منحة لدراسة الطب والاختصاص فى الطب النفسى، عمل كطبيب نفسى عسكرى وصل إلى رتبة ميجور، أى رائد، وتم إلحاقه بوحدة العلاج النفسى بالقاعدة التى ارتُكِبت فيها الجريمة، وصباح يوم ارتكابه للجريمة سُجِّلت له صورة عبر أجهزة المراقبة فى سوبر ماركت قريب من بيته، وكان يرتدى جلبابا أبيض ويبتاع احتياجاته قبل أن يذهب إلى عمله، وتردد أنه كان يصيح «الله أكبر. الله أكبر» أثناء إطلاقه النار من سلاحين كانا بحوزته.

المعلومات التى تم جمعها ورشحت من وسائل الإعلام بعد الحادث، قالت إنه شخص متدين لكنه غير متطرف، وكان كارها لعمله وغير متميز فيه، وزاد كراهية له بعد معرفته أنه على وشك النقل إلى أحد ميادين القتال إما فى العراق وإما فى أفغانستان، وأفاد أحد أقاربه أن نضال كان قد أوكل محاميا لرفع قضية يخرج بمقتضاها من الجيش، وكان مستعدا لدفع تعويض عن ذلك،

أما عمله الطبى فكان عبئا نفسيا ثقيلا عليه، لأنه كان يعالج أو يحاول علاج المصابين بمتلازمة ما بعد صدمة الحرب، والتى كانت تتجسد أمامه بتشوهات نفسية مخيفة، لجنود ارتكبوا القتل أو تعرضوا له، حالات اكتئاب عميقة تقاوم العلاج، وعدد وافر من محاولات الانتحار أو التفكير فى الانتحار، بينما نضال نفسه ظل يعانى من شعور بالاضطهاد والتمييز من زملائه بعد أحداث 11سبتمبر!

هذه المعطيات، وتفاصيل أخرى، جعلت الباحثين يحتملون أن يكون نضال مالك حسن الطبيب النفسى والضابط برتبة ميجور، مصابا بحالة «تعب الرحمة»، وأنه كان واقعا تحت تأثيرها عند ارتكابه لجريمته.

و«تعب الرحمة» «Compassion Fatigue» هو مصطلح طب نفسى حديث، ظهر لأول مرة فى مقالة نُشرت فى مجلة «التمريض» عام 1992، لتصف حالات نفسية تعانى منها الممرضات العاملات فى أقسام الطوارئ ورعاية الحالات الميئوس من شفائها، ومع الوقت صارت الحالات النفسية الموصوفة لهؤلاء الممرضات تتسع لتشمل غيرهن من المشاركين فى رعاية مرضى السرطان فى الحالات المتأخرة، وضحايا الكوارث، ونزلاء مصحات المصابين بألزهايمر. باختصار، هى حالة اليأس النفسى التى يُمنى بها المنخرطون فى رعاية حالات ميئوس من شفائها.

لقد اقتُرحت تسميات أخرى لهذا المرض النفسى، فسماه الدكتور «فيجلى» ابتداء من عام 1995 «ضغط الصدمات الثانوية»، وسماه آخرون «الرض النفسى بالنيابة»، أى التأثُّر النفسى السلبى تجاوبا مع حالة شخص آخر يعانى معاناة لا خلاص منها، وأيا كانت التسمية، فإن المعنى الشامل لكل هذه التسميات ظل منصبا على حالة الإجهاد التى تصيب دوافع الرحمة لدى القائمين بأعمال رعاية حالات شديدة الإيحاء باليأس وعدم الجدوى، وتُفضى بأصحابها إلى مجموعة من الأعراض الجسدية والنفسية والاجتماعية أقرب ما تكون إلى اكتئاب عميق من نوع خاص جدا، يخالطه توتر شديد من نوع خاص أيضا.

ولو تأملنا هذه الحالة، لوضح لنا بشكل مفزع أننا، نحن المصريين معظمنا، نعانى مؤخرا كمجتمع من تعب الرحمة، وننطوى كأفراد على كثير من مفردات أعراضه، ليس حرفيا، ولكن ضمنيا، فلا يستطيع أحد أن ينكر أن كلًّا منا ينتابه إحساس عميق باليأس فى الحاضر، واللاأمل فى المستقبل، ومعظمنا يشعر بالسُخط والعجز عن تغيير الأمور إلى الأفضل، خاصة والسياسات المهيمنة توغل فى غيها وتتصرف بفظاظة وفجاجة كأن لا أمة هناك. كذب فاجر، ونهب مسعور، وحكم بالقوة والتحايل، ولا أمل فى الأفق، بل تكريس لاستمرار الوضع نفسه، بالوجوه نفسها، والسياسات نفسها، ومن ثم ينعدم الأمل، وتتعب الرحمة.

والرحمة كقيمة مجتمعية كانت سمة أصيلة فى حياة المصريين، وهى لم تعد كذلك، ففى ظل سلطة أنانية فاقدة للشرعية ومصرة على الاستمرار، أصبحنا شعبا يعانى الإحباط نفسه الذى يعانيه من يعملون فى مصحات الحالات الميئوس من شفائها، وتسللت إلى دواخلنا معاناة بديلة وشعور باللاجدوى ومن ثم العجز، بل الخزى.

ثم إن كل أعراض «تعب الرحمة» على المستوى الفردى صار لها مُمَاثلات جماعية على المستوى العام، فما هذا الاستسلام لتراكم الزبالة فى حياتنا، وسوء الأداء المهنى، وتفسخ النسيج الاجتماعى، وخمود الهمم، والاستلاب العقلى، وعشوائية الغضب، والتناحر الاجتماعى. كل هذا يقطع بإصابتنا بتعب الرحمة، وهو أمر يتجلى واضحا فى التناحرات الفئوية والطائفية، والتنازُع بين قوى يُفترَض أنها تنتمى جميعا إلى أفق التغيير، وأخيرا المعارك الجانبية التى تبتعد بنا عن غايات الأمة الحقيقية والصريحة، ومثالها الأحدث والأوضح هو صدام المحامين وممثلى النيابة العامة والقضاء.

من المؤكد أن هناك شكا شعبيا عميقا وخصومة كامنة تجاه كل سلطة، خاصة فى السنوات الجائرة الأخيرة، وهى حالة تقترب من انعدام الرحمة بين مكونات المجتمع، حيث الرحمة ينبغى أن تكون أساس التعامل فى ظل قانون عادل واحترام حقيقى لحقوق المواطنة، أيّا كانت مُقدّرات القوة التى تكتنزها الوظائف العامة، فى الشرطة أو النيابة أوالقضاء أوالمواقع السياسية.

وتحت سقف مثل هذا الاستقطاب، بين من يمتلكون وظائف سلطوية وأخرى غير سلطوية، فإن التربص والشك يتحولان إلى ضغط يتحين لحظة الانفجار للتخلص من شحنات الكراهية الكامنة تجاه كل سلطة، وبدورها تكشر السلطة عن أنيابها وتستخرج أسلحة قوتها لا حكمتها، فالمحامى قيل إنه اندفع مقتحما غرفة وكيل النيابة وهو يردد أن له فى هذه الغرفة مثلما لشاغلها، وأنه حاصل على جيد جدا وكان يستحق مثلها، ووكيل النيابة تردد أنه تهور بصفع المحامى تعبيرا عن قوة سلطته، والمحامون انضموا لزميلهم لا تعبيرا عن التضامن بقدر تنفيسهم عن المحبوس فى صدورهم من شعور بالمهانة والقهر، ثم اندفع المحامى المصفوع لصفع وكيل النيابة تفجيرا لضغوط قهره. وأخيرا ما تبع ذلك من حكم عاجل هائل بحبس المحامى 5 سنوات كاملة فى بضع ساعات، ثم التلاسن الفج وغير البرىء ممن يُفترَض أنهم رءوس لشقى العدالة: القضاء الواقف، والقضاء الجالس!

حريق مروِّع أشعلته شرارة فردية، وغذته ألاعيب السياسة التى لم ترد للعدالة أن تكون مستقلة أبدا، فتآمرت من قبل ضد إرادة القُضاة طالبى الاستقلال، وعبثت باختيارات المحامين الطامحين إلى التغيير، فكان الخاسر هو المجتمع نفسه، بل هذه السلطات الأنانية ذاتها، فانهيار العدالة الدستورية يتيح لقوى بديلة أن تصعد على أنقاضها، وهذه القوى لن تكون إلا فئوية ومتعصبة، ومع إصرار هذه السلطة أن تظل سادرة فى غيها، فلابد أن نتوقع لحظة جنونية ما، لأن هناك من ستتعب رحمته لدرجة الانفجار. ولن يكون أمامنا إلا أن ننبطح أرضا، ونحمى أدمغتنا ولو بأيدينا، لعلنا ننجو من شظايا العبث المتطاير!

لقد وضع علماء «تعب الرحمة» خططا للوقاية، واستراتيجيات للعلاج، وهى وإن تكن موضوعة للحالات الفردية، إلا أنها صالحة للمجموع وللمجتمع أيضا، والبداية هى الوعى بحقيقة هذه الحالة حتى لا نغرق فى أعماقها التعيسة، وفهم أن سببها ليس من نرعاهم دون أمل، بل من سرق منهم ومنا الأمل: الألزهايمر والسرطان والكوارث!
لنتراحم.. لعل يرحمنا الله.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .