حديثنا اليوم يدور حول ما سميناه «ثورة سلمية لتصحيح المفاهيم السياسية والدينية السائدة» وهو التصحيح الذى لا يستغنى عنه لتحقيق التغيير السياسى الجوهرى الذى نادت به ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وبغير تحديد عناصر هذه الثورة السياسية وإصلاحها إصلاحا جذريا تتعرض الثورة كلها للضياع والانتكاس.
والمفاهيم الكبرى الأساسية التى تتكون منها «الثقافة السياسية» للمجتمع الديمقراطى مفاهيم ثلاثة هى:
1ــ الشورى والمشاركة السياسية لجموع المواطنين.
2 ــ سيادة القانون وما تقتضيه من إقامة العدل، وتحقيق المساواة.
3ــ الاعتراف بحقوق الأفراد وحرياتهم فى مواجهة بعضهم البعض وفى مواجهة سلطان الحكم فى الجماعة، واعتبار هذه الحريات هى الأصل القانونى والسياسى العام، واعتبار القيود عليها مجرد استثناءات تمليها الضرورة فى أضيق الحدود (وهو أصل يستند إلى أن إطلاق حريات الأفراد وفى مقدمتها حريتهم فى الاعتقاد والتعبير، يعد مقدمة ضرورية لتعظيم منافع الحياة السياسية المنظمة وتقليل الآثار السياسية السلبية لحكم الفرد واستبداده).
أولا: الشورى والمشاركة السياسية:
ودون إطالة أو تحليل نظرى طويل نبادر فنقرر أن ممارسة الشورى وتحقيق المشاركة الفعالة والجدية لجموع المواطنين فى اتخاذ جميع القرارات التى تمس مصالح أفراد الجماعة فرع منطقى يتفرع عن اعتبار الشعب صاحبا للسيادة واعتبار الحكام، أفرادا ومؤسسات، مفوضين من جانب الشعب لإدارة شئون الجماعة تحت رقابته وسلطانه. ثم إن هذه المشاركة حين يتم تنظيمها.. هى الضمان الأكبر لترشيد القرارات السياسية والاجتماعية عن طريق النشاط المنظم لمؤسسات المجتمع السياسية والتشريعية والتنفيذية.
وأول ما يتمثل فى المشاركة الشعبية حق الشعب فى إقرار التشريعات التى تنظم الحياة العامة ووضع ضوابطها الملزمة للحكام والمحكومين، وعلى رأس هذه التشريعات «الدستور» الذى يبين هيكل السلطة ويحدد المؤسسات المختلفة التى تدير أمور الجماعة، بتفويض من الشعب صاحب السيادة، وتوصف هذه السلطة التى تتولى وضع الدستور بأنها السلطة التأسيسية Pouvoir Constiuant تمييزا لها عن السلطات التى تنشئها نصوص الدستور والتى تعتبر هيئات «مؤسَّسَة (بفتح السين)، كما تمثل ــ بعد ذلك ــ فى وضع التشريعات التى تفصل ما أجمله الدستور، وحقه فى متابعة نشاط السلطة التنفيذية التى يتعامل معها أفراد الشعب فى حياتهم اليومية، كما تشمل أخيرا حق الأفراد فى الالتجاء إلى القضاء المستقل عن سائر السلطات، لتصحيح ما قد تقع فيه السلطة التشريعية أو إحدى الجهات الإدارية المكونة للسلطة التنفيذية من خروج على حدودها الدستورية، كما تشمل حق الأفراد فى طلب التعويض المادى والأدبى عما عساه يلحق هؤلاء الأفراد من أضرار مترتبة على هذا الخروج.
والآليات الأساسية والفعالة لوضع المشاركة الشعبية موضع التطبيق العملى تشمل عدة أمور أهمها:
1ــ بناء نظام انتخابى يكفل وصول الأفراد والجماعات إلى صناديق الانتخاب والاستفتاء، وممارسة حرية الاختيار والإدلاء بالرأى فى البدائل المطروحة، بعيدا عن كل صور التدخل من هيئات الحكم فى سير عملية الانتخاب أو سعيا إلى التحكم فى نتيجتها، ترغيبا أو ترهيبا أو تزويرا سافرا أو مستترا لإدارة الناخبين واختيارهم.. ومن هنا كانت الرقابة القضائية على العملية الانتخابية وإجراءاتها فى مراحلها المختلفة ضمانا أساسيا لجدية المشاركة الشعبية وفاعليتها.. بغيرها تئول «المشاركة الشعبية» إلى شعار كاذب يجهض قاعدة الأساس التى يقوم عليها كل نظام ديمقراطى.
2 ــ ولقد شهدت العقود الخمسة الأخيرة تقدما ملحوظا فى مدى مشاركة منظمات المجتمع المدنى فى الرقابة على نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها، كما شهدت تقدما نسبيا موازيا فى السماح لمنظمات حقوقية دولية بمراقبة تلك الانتخابات، وإن كانت بعض النظم لا تزال عاجزة عن فهم أسباب هذا التطور ولا تزال ــ لذلك ــ ممتنعة عن قبوله زعما بأن المراقبة الدولية تمثل تدخلا غير مقبول فى الشئون الداخلية للدول التى يراد إخضاعها لتلك الرقابة، وهو اعتراض نتوقع ــ من جانبنا ــ زواله فى مستقبل غير بعيد ــ خصوصا ــ إذا تم الاتفاق على أن تكون هذه الرقابة رقابة متبادلة يتم التراضى عليها فى إطار اتفاقات دولية ثنائية أو جماعية.
ثانيا: سيادة القانون:
وإذا كان القانون الذى تقوم الممارسة الديمقراطية على سيادته وإنفاذ مضمونه هو ــ وفقا للتعريف المستقر فى سائر النظم السياسية «مجموعة القواعد المجردة التى تنظم العلاقات بين الأفراد والمؤسسات المختلفة التى تمارس السلطة داخل المجتمع»، فإن الدولة القانونية هى تلك التى تكون الحكومة فيها «حكومة قانون لا حكومة أشخاص تعلو إرادتهم على إرادة المشروع وما تقرره القوانين «وهو المبدأ الذى عبر عنه الفقه الدستورى فى كثير من الدول بأن النظام الديمقراطى لا تكتمل أركانه الأساسية إلا إذا كانت الحكومة، قانونا وفعلا حكومة تخضع جميع قراراتها وتصرفاتها لقواعد قانونية مقررة سلفا بعيدا عن مشيئة من يتصادف شغلهم لمواقع السلطة السياسية فى الجماعة «a government of laws not of men».
ومن العناصر الأساسية الضامنة لسيادة القانون أن يكون مضمون القانون محققا لحد أدنى من الاستقرار والثبات فى حياة الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم، فلا يفاجئهم التشريع بقواعد لم تكن قائمة ولا متوقعة وقت تصرفهم.. وإذا كان التعبير القانونى لهذا المبدأ هو ما يسميه التشريع والفقه «مبدأ عدم رجعية القانون»، فإن التسمية السياسية الدقيقة له ألا يصدر القانون مفاجئا للمخاطبين به، وأن يكون هؤلاء المخاطبون «متوقعين» للقاعدة القانونية وقادرين على ترتيب أوضاعهم وتنظيم مستقبلهم على أساسها وإلا اختل نظام المجتمع كله وصارت علاقة الأفراد بالقانون ونظرتهم إليه أشبه بنظرة «الطير للصائد منها بنظرة الجندى القائد»، ومن الضرورى أن ننبه إلى أن هذا العنصر المهم من عناصر سيادة القانون يقتضى ــ على سبيل المثال ــ أن يمتد الالتزام به إلى السلطة القضائية وهى تنظر فى طلبات فسخ العقود أو إبطالها، وأن تلتفت إلى أن مفاجأة أصحاب المشروعات وأصحاب الحقوق بإبطال عقود وتصرفات مضت على إبرامها والعمل بنصوصها سنوات طويلة نتيجته اللازمة أن يهتز كيانهم الاقتصادى، وأن تحيط بهم قيود ومحاذير توقعهم فى شباك منصوبة وهم يرون ما بنوه فى سنوات فى ظل أوضاع وضوابط تشريعية موضوعية أو إجرائية ينهار أمام أعينهم انهيارا بتجاوزهم إلى مئات وآلاف ممن تعاملوا معهم وارتبطوا بهم، وهذا كله هو ما يعبر عنه فى الفقهين الدستورى والقانونى بمبدأ ضرورة إمكان التوقع فى التعامل مع القوانين Predictability.
ويستمر نظر الدارسين للقانون الدستورى المقارن أن هذا المبدأ الأساسى العام مبدأ سيادة القانون قد عبر عنه فى إطار تراثنا العربى الإسلامى قول الله تعالى مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وسلم) «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر»، وهو ما يعنى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكل حاكم من بعده يكشف بما يصدره من قرارات عن القواعد القانونية الملزمة للأفراد، ولا ينشئها من عنده، وأكدت آيات قرآنية أخرى هذا المبدأ الدستورى بقوله تعالى «من يطع الرسول فقد أطاع الله»، كما يبلغ الوضوح فى إقرار هذا المبدأ «الجوهرى» ما يشير إلى أن الحاكم وإن كان له دور فى التشريع، فإنه يظل ــ طوال الوقت ــ ملتزما بطاعة هذا التشريع وتنفيذ أحكامه، شأنه فى ذلك شأن سائر الناس الذين يتوجه إليهم التشريع بالخطاب الملزم ذلك «ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين».
(سورة الحاقة الآيات من 44 إلى 46).
ويتفرع عن سيادة القانون ويرتبط بها ارتباطا وثيقا مبدأ آخر مؤداه «توفير المعاملة القانونية والفعلية المتماثلة للأوضاع المتماثلة بحيث يمتنع التمييز ــ أى تمييز ــ بين أصحاب تلك الأوضاع المتماثلة، وهو المعنى الذى عبر عنه الفقه الدستورى والقانونى فى كثير من الدول بمبدأ «الحماية القانونية المتكافئة» Equal Protection of the laws، وهو ما يترتب عليه بطلان أى تمييز قانونى أو فعلى يستند إلى ما يخالف «أصل المساواة بين جميع أفراد البشر» ومن قبيله إقامة التفرقة والتمييز على أساس من الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة» وهو ما كانت تمنعه المادة 40 من الدستور المصرى الصادر عام 1971 والتى لا تزال نرى فى عبارتها الواضحة التى جاءت بها ما يصلح لاستمرار الأخذ بها فى ظل الدستور الدائم الذى يتوقع الاتفاق عليه وإنفاذه بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
وهذا التفسير الواضح لمبدأ سيادة القانون يتممه ما استقر عليه الفقه والقضاء فى مصر وفى أكثر الدول الديمقراطية المعاصرة من أن القيمة الحقيقية لهذا المبدأ الذى يعبر عنه بمبدأ «المشروعية» أو خضوع جميع أعمال الدولة ومؤسساتها للقانون، هذه القيمة لا تتحقق ولا تكتمل إلا إذا قامت على إنفاذها والتحقق من احترامها سلطة قضائية مستقلة ترد كل محاولة للخروج على أحكام القانون ومضمون قواعده.
والواقع أن هناك علاقة تأثير وتأثر متبادلين بين العناصر الثلاثة التى يقوم عليها النظام الديمقراطى وهى مبدأ المشاركة الشعبية ومبدأ سيادة القانون، ومبدأ توفير الحقوق والحريات وما يحيط به من ضمانات تعزز الاستقرار السياسى والسلام الاجتماعى، فإذا غابت الشورى أو أجهضت بتزوير الانتخابات أو تزييف إرادة الناخبين وحريتهم بالضغط عليهم ترغيبا أو ترهيبا وإذا جرى تمييز قانونى أو فقهى غير جائز تعذر قيام سيادة القانون بعناصرها التى عددناها، ووجدت السلطة التنفيذية مداخل وثغرات تدخل منها إلى فرض إرادتها على أفراد المجتمع جميعا.
ثالثا: أما العنصر أو المكون الثالث للنظام الديمقراطى:
فهو تصحيح النظر إلى دور «الحريات» فى تحقيق نهضة المجتمع، وتوظيف علاقات التنافس والتدافع بين مؤسسات الدولة وأفراد المجتمع لتحقيق تلك النهضة التى يتحقق بها فى النهاية تقدم المجتمع كله.
ومن الأمانة الواجبة أن نقرر أن الثقافة السياسية السائدة فى أكثر الدول العربية والإسلامية لم تلتفت إلى أهمية الدور الذى تلعبه الحريات العامة وفى مقدمتها حرية الاعتقاد وما يتبعها من حرية التعبير فى تحقيق الاستقرار والسلام الاجتماعى فضلا عن تحقيق التنمية بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
نعم.. إن خطاب أكثر الحكام والساسة والأكاديميين وقادة الأحزاب والجماعات السياسية فى العالم العربى كله لم يخل أبدا من عبارات تدعى الانحياز للحرية ولسيادة القانون بصورها المختلفة، ولكن الممارسات العملية، والوجدان الجماعى فى تلك الدول ظل ــ معظم الوقت ــ مكتفيا بإعلان هذا الانحياز دون أن يترجمه إلى مواقف عملية من شأنها أن تحقق ثمراته الكبرى النافعة بل إن سنوات القهر والاستبداد التى وضعت كثيرا من الحكام فى مقام التقديس والارتفاع فوق كل صور المساءلة قد دفعت كثيرا من المحكومين إلى حالة من حالات الدفاع عن النفس عن طريق نفاق أولئك الحكام والإغضاء عن خطاياهم وأخطائهم فسكتوا مضطرين عن كشف الظلم الذى تعرض له آلاف منهم كما سكتوا عن نقد سياسات كان مقطوعا أنها تفسد المجتمع وتغتال فرصته فى التقدم وتحقيق النهضة.. كما تؤجج نيران الاستقطاب الحاد بين فئاته المختلفة. وعلى الساحة الدولية أدى هذا كله إلى تهميش دور مصر وتراجعه فى العوالم الثلاثة التى تنتمى إليها. العالم العربى والعالم الإسلامى والقارة الأفريقية، وآن لنا جميعا أن ندرك أن هذه النتائج الكارثية ترتبط ارتباط مباشرا بإهدار قيمة الحرية وتجاهل وظيفتها فى ترشيد حركة المجتمع نحو مزيد من النهضة والتقدم فى ظل نظام قانونى ثابت الجذور ينزل على حكمه جميع الحكام والمحكومين.