قاعدين على القهوة ليه؟ - عمرو عبدالقوى - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاعدين على القهوة ليه؟

نشر فى : السبت 22 فبراير 2014 - 4:25 ص | آخر تحديث : السبت 22 فبراير 2014 - 4:25 ص

القهاوى بجميع مستوياتها اصبحت من انجح المشاريع الاستثمارية، فيبدو أنه أينما فتحت قهوة أبوابها وجدت المئات والآلاف من الرواد الشباب ليملئوا مقاعدها غالبية ساعات النهار والمساء. بالطبع يمكن تبرير ذلك بنسب البطالة المتزايدة (والخطيرة) والتى تعدت رسميا الـ ١٣٪، بينما تشير العديد من المؤشرات غير الرسمية إلى ما يتعدى ذلك بكثير.

ولكننا نرى فى مشهد آخر شركات صناعية كثيرة تشتكى من وجود وظائف واحتياج قوى لعمالة فنية (رغم الوضع الاقتصادى الراهن) ولا توجد عمالة مؤهلة لسد هذا الاحتياج، مما ارغم العديد إلى استقطاب عمالة فنية من الخارج.

ونحن نستكمل مشوار درس ما بعد ٢٥ يناير الصعب، آن الأوان (بل تأخرنا كثيرا) لنواجه المشكلة الاساسية والتحدى الاكبر لبناء مستقبل افضل لهذا البلد، وهى مشكلة ضعف كفاءتنا كأفراد ومؤسسات التى تمنعنا من المنافسة فى السوق العالمية بصورة فاعلة، فمركز مصر هبط إلى ١١٨ من ١٤٨ فى تصنيف التنافسية الدولية.

مما لاشك فيه فإن احدى المشكلات الرئيسية التى تعانى منها سوق العمل المصرية هى افتقاره لعمالة مؤهلة ذات كفاءة عالية، وقد ساهم تردى منظومة التعليم بصورة عامة، والتعليم الفنى بصورة خاصة، فى زيادة هذه الفجوة مما أدى إلى تخريج اجيال من الفنيين غير القادرين على مواكبة التقدم التكنولوجى، وهو ما يؤثر على جودة المنتج المصرى وبالتالى على قدرات الصناعة التنافسية سواء محليا أو دوليا، مما يساهم بالتالى فى زيادة معدلات البطالة فى المجتمع.

•••

المشكلة كبيرة فى الكم والكيف، ففى التعليم الفنى فقط هناك ما يزيد على مليونى طالب فى هذه المنظومة مما يعنى بأنها تضخ ما يزيد على نصف المليون شاب وشابة فى سوق العمل سنويا ليسوا مؤهلين فعليا لأى عمل. وعلينا فقط سؤال أرباب الاعمال فشكواهم من مستوى العمالة الفنية المصرية لا تنتهى. ففى تعبير لا أنساه لأحد أرباب الاعمال قال: «نحن نشترى فى مصانعنا معدات حديثة كسيارات «الفرارى» الايطالية ونستخدم لقيادتها سائقى توك توك!» فماذا نتوقع من مستوى الأداء لهذه المعدات وتلك المصانع؟

وأما ما يثير الدهشة هو ردود نفس أرباب الاعمال على السؤال البديهى: «لماذا إذن لا تدربوا العمالة الفنية لرفع كفاءتهم لتلبية احتياجاتكم؟» فى٩٠٪ من الحالات يكون الرد بأنهم يتخوفون من تركهم العمل للمنافسين فور تدريبهم، أى أن أرباب العمل لديهم الاستعداد لتحمل الخسارة الناتجة عن قلة كفاءة العمالة الفنية بدلا من المجازفة بالاستثمار فى رفع الكفاءة وزيادة الربحية.. وتستمر العجلة المفرغة فى الدوران!

وكلمة السر هنا هى «الفنى المؤهل». فمشكلة التأهيل ليست مقصورة على جانب تدريب الشاب على «صنعة» ليحصل بها على «شغلانه»! (كما تسعى إليه كثير من البرامج والمشروعات الموجهة لمعالجة الجانب الكمى للمشكلة). فهذا لا يلبى طموحات وتتطلعات الشباب المعاصر الذى ولد فى عالم الانترنت والعولمة. كما انه لا يلبى احتياجات الصناعة لفنيين محترفين قادرين على التعامل مع تحديات المنظومة الانتاجية الحديثة. المشكلة لها جوانب اخرى لا تقل فى الاهمية عن الجوانب التقنية لـ«الصنعة»، ففى العقود الماضية تدهورت ثقافة العمل فى مجملها فلم يعد الاحتراف منهجيتنا، واصبحت قيم الكسب السريع والاسهل هى الغالبة على ثقافة العمل المصرية، ويظهر ذلك بوضوح بالغ فى مجالات العمل المهنى. وساهم هذا التدنى فى الأداء المهنى للفنى المصرى إلى تدنى النظرة المجتمعية له، والذى ساهم بالتالى إلى عزوف الشباب عن العمل المهنى.

•••

المنافسة فى جميع المجالات وعلى جميع المستويات اصبحت شرسة على المستويين الفردى وكذلك المؤسسى، ولا مجال فيها للتشبث بالرؤية المحلية فقط (يعنى مش كفاية ان سوقنا بتقبل كده!). ولذلك فلا بديل للاحتراف: الاحتراف فى نظم إدارتنا لمؤسساتنا الصناعية، وفى تأهيلنا لشبابنا وفنيينا.

«الصنايعي» الذى نتعامل معه حاليا فى السوق المصرية يعتبر هاويا بالمقاييس الدولية، فسبل نموه وتطوره محدودة وقدراته على تعلم الجديد مرتبطة بالمصادفة وليس بمنهجية علمية. المهنى المحترف كما نعرفه هنا هو شخص قادر بسبب تأهيله وقدراته على التطور المستمر وعلى بناء مستقبل وظيفى يحقق طموحاته فى مجال تخصصه. ليس من الصعب اثبات مدى تأثير فنيين بمثل هذا المستوى على انتاجية وفعالية الشركة، فالشركات الرائدة عالميا تتميز على مثيلاتها بقدرات مواردها البشرية على التطوير المستمر والابتكار، كانوا من المهندسين والاداريين أو من الفنيين.

إننا فى مرحلة فارقة تاريخيا وليس لدينا خيار فيما اذا كنا سنستثمر فى رفع كفاءة مواردنا البشرية أم لا. فلا مجال لاستمرار سياسات لا تحقق الا ارقاما تصلح فقط لمانشيتات الصحف.

هناك حقيقتان يجب الامتثال لهما، اولاهما هى أن الجودة يجب ان تصبح المراد ولا ينبغى التنازل عنها، الانسان المحترف ذو الكفاءات العالية هو من يساهم فعليا فى رفع الانتاجية وبالتالى فى الارتقاء بمستوى معيشته ومن ثم الارتقاء بالمجتمع. أما الحقيقة الثانية فهى ان انتظار الحل ان يهبط من «الحكومة» كما تعودنا فهذا هو العبث بعينه. فالرغبة فى التغيير تبدأ من الفرد فإن لم تتوافر فلا مجال للتغيير، ثم هناك على المستوى الآخر اصحاب المصلحة، ارباب الاعمال فهم يديرون العملية الانتاجية وزيادة الانتاجية تعود عليهم أولا قبل ان تعم على الجميع، فعليهم تقبل هذه المسئولية واخذ زمام المبادرة فى هذا المجال.

•••

وفى هذا الصدد يجب الاشارة إلى ان هناك العديد من ارباب الاعمال ادركوا هذه الحقيقة وبدأوا فعلا فى تفعيل دورهم والاستثمار فى رفع كفاءة العاملين بشركاتهم من خلال مراكز تدريب داخل الشركات، وسرعان ما ظهر المردود فى زيادة الانتاجية والولاء. ولكن هناك امثلة (ليست بالحجم المؤثر بعد) لمن ذهبوا بهذه المسئولية خارج حدود شركاتهم للعمل مع المجتمع الاوسع.

وهنا اود التوقف قليلا عند إحدى هذه التجارب لما تضيفه إلى منهجية المواجهة لتلك المشكلة وهى «الاكاديمية الوطنية للعلوم والمهارات ــ ناس» والتى تبنت انشاءها مجموعة شركات سامى سعد مع مطلع عام ٢٠١٣. الإضافة الملحوظة لهذه التجربة هى تركيزها على فكرة بناء مهنى مصرى محترف قادر على اثبات جدارته مهنيا واثبات ذاته اجتماعيا ومن ثم تحقيق طموحاته وتطلعاته لمستقبل افضل.

تركز منهجية «اكاديمية ناس» على إعادة صياغة مفهوم المهنى المصرى من خلال احترافه، فهو شخص يتم تأهيله نظريا وعمليا فى مجال تخصص معاصر طبقا لأعلى المعايير الدولية، مثله مثل نظيره فى الدول الصناعية المتطورة، لذلك تكون مؤهلاته معتمدة من جهات دولية. وهو شخص اكتسب مهارات فى اللغات وتكنولوجيا المعلومات حتى يتمكن من مواكبة التطورات فى مجالات عمله اينما كان مصدرها، والاهم فهو شخص يعى ثقافة العمل المعاصرة واكتسب المهارات الشخصية للعمل فى فريق ضمن منظومة عمل متطورة تبدى قيم الجودة والانتاجية.

تلخيصا هو شخص استعاد ثقته فى نفسه وفى قدرته على تغيير مسار حياته من خلال بناء قدرته على التعلم والتطوير المستمر، والمهنة التى يمتهنها تصبح الوسيلة لتحقيق هذا التطور والطموحات، وليس فقط وسيلة للحصول على «وظيفة والسلام!»

هى رؤية تبدأ من قناعة بأن اساس المشكلة التى نواجهها تكمن فى اجيال خرجت من المنظومة التعليمية غير مؤهلين لدخول سوق العمل، يفتقدون الايمان فى عدالة المنظومة، وثقتهم فى قدرتهم على تغيير حالهم باسلوب ايجابى تكاد تكون منعدمة، فقد ختمت عليهم المنظومة بالفشل كما اشار بحث للمركز القومى للبحوث الجنائية نشرته جريدة الاخبار منذ عدة اشهر وفيه أكد غالبية مديرى المدارس الفنية قناعتهم بفشل الطلبة المتخرجين من المدارس التى يديرونها!

•••

فها نحن امام مجتمع الغالبية العظمى منه شباب فى سن العمل، والغالبية العظمى منهم خريجو تعليم متوسط وفنى غير مؤهلين حتى للعمل الفنى، والمجتمع مقتنع بعدم أهليتهم واصبح له نظرة متدنية لهم وللعمل الفنى بصفة عامة.. أليس من المنطقى ان يفضل هؤلاء الشباب قضاء اوقاتهم على القهاوى؟

آن الآوان لنا ان نعطى الجودة فرصة لأن تصبح منهجيتنا وقوة الدفع الرئيسية للتغيير. وهذا ما نراه نقطة تحول نوعى فى تجربة «اكاديمية ناس»، فهى ترى ان السبيل الانجح والمستدام لتفعيل تغيير حقيقى ونوعى على المستوى المجتمعى يكمن فى إعادة الفرد إلى مركزه المحورى فى دائرة الاهتمام حيث تركز منظومات المجتمع على أولوياته وعلى دورها فى تمكينه من تحقيقها. فالفرد المتمكن والمؤمن بقدراته يتحول لقائد يجذب وراءه شباب آخرون ويصبح قوة دفع حقيقية تساهم فى دفع المجتمع إلى الامام، بدلا من اكتفائه بأن يكون رقم تخرجه منظومة كمية وتمنحه ورقة لا تغطى قيمتها تكلفة جلوسه على القهوة.

عمرو عبدالقوى أستاذ العمارة بالجامعة الامريكية بالقاهرة
التعليقات