من قلبى سلامٌ لفيروز - داليا سعودي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من قلبى سلامٌ لفيروز

نشر فى : الأربعاء 23 نوفمبر 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 23 نوفمبر 2016 - 9:05 م

فى زمان مُنحت فيه جائزة نوبل فى الآداب لمطرب اكتملت وسط قومه أسطورتُه الشعريةُ وتفردت، يجدر بالعرب أن يحتفوا بفيروز، أسطورتهم الحية فى زمان النسيان والأفول. ويجدر بمن سلكوا دروب الفن أن يتعلموا من سيرتها كيف يكون الفنان ضميرا لجميع أطياف الشعب، فى زمان سدنة المعبد ومهرجى السلطان.

•••

 

حين همَّت بطرق أبواب الفن، كان عليها أن تختار لنفسها اسما فنيا: إما شهرزاد أو فيروز، فاختارت أن تكون فيروز. فلا هى تجيد الثرثرة الأنثوية التى عُرفت بها بَطلةُ ألف ليلة وليلة، وهى من اختارت الأغنية البالغة القصر قالبا تعبيريا لشدوها؛ ولا هى بالمُشهِرةِ لأنوثةٍ شهرزادية طاغية، وهى من تجلَّلت بحضور ملائكى شفيف لا يكاد يستدعى أى تصنيف چندرى.
كل ما عُرفت به من ألقاب واشتُهرت به من أوصاف يجعلها تلك العالية النورانية بعيدة المنال: فهى «جارة القمر»، و«السفيرة إلى النجوم». قيل صوتها من ضوء، ونبراتها من فضة، وعالمها الشعرى حلم يقظة، يحكى قصة حب غير مكتملة، تبكى على أطلال فردوس مفقود، فى بيروت، وفى القدس، وعلى ضفاف نهر الأردن، وفى وادى بردى، وفى بغداد التى كان يغسل وجهها القمرُ. هى صوت الفردوس المشرقى الحزين، المستسلم لمصيره الممزق على مر عقود ما بين احتلال فلسطين وحروب لبنان وغزو العراق وإبادة سوريا.

•••

 

وقد كان هذا السمو المعنوى واضحا فى إطلالاتها اللحنية. ففى المؤسسة الرحبانية التى احتضنتها، تَقرر أن تغنى الفيروزة انطلاقا من الطبقات الصوتية العليا. يتخير لها منصور نغمات غربية جديدة، يغلفها عاصى بغلالة شرقية محببة، ويضيف إليها فيلمون وهبى كنوزا من المقامات العربية، ويهديها زكى ناصيف ــ وإن بعد ترد دــ لآلئ لحنية لا تنسى. ليرتقى الصوت الفيروزى مدارج طبقات عليا لم تُطرق من قبل. فقد كانت هناك فى بيروت حاجةٌ للتمايز عن مؤسسة موسيقية كلاسيكية عملاقة فى القاهرة تدعى أم كلثوم.
وبالمثل، حمل المعجم الشعرى الفيروزى فى تجلياته الرحبانية والتراثية ومع سعيد عقل وجبران، ما يبرر هذا الافتتان بالطبقات الصوتية العليا. ففى مفرداتها، ستجد دوما مسافات وطرقات وأشواق، وتوقا للقاء، وبحثا لا ينتهى، ومناداةً لغائب، وفراقا بعد عناق، ومطالبةً مستميتة بالتمسك بالذكرى وبمدافعة النسيان. «اوعى تنسينى» يكررها حنا السكران ــ أشد ألحانها بهجة ــ وهو يطل باكيا «على حيطان النسيان». أما الانتظار فهو التيمة التى لا تكاد تخلو منها أغنيةٌ لها. انتظار فى الصيف، انتظار فى الشتاء، انتظار ما لا يأتى، عند موقف دارينا، أو حد القناطر، انتظار انقشاع ليالى الشمال الحزينة، وانقضاء هم العمر، وحلول مواسم العصافير، وورود نيسان. وبين انتظارٍ وانتظار مساحاتٌ مترامية من الحنين، حنين لزمان الوصل بالأندلس، أو لثغر حبيبة عنترة المتبسم، حنين لدار الهوى بالشام، لمدينة الصلاة الضائعة، لليلة الإسراء، لـ«درب من مروا إلى السماء»، لخبز بيروت والياسمين، ولعودة شادى من الأحراش، طفلا جميلا صاعدا من خلف التل مع أكثر من مائتى ألف نفس أزهقتها حرب لبنان.

•••

 

يحكى الرواة كم شهدت ليالى مهرجان بعلبك وبيت الدين وكازينو بيروت ومسارح العالم على أمجاد السيدة فيروز فى عصرها الذهبى. لكن الليلة التى بلغت فيها «أرزة لبنان» ذروة المعنى والرمز كانت ليلةَ السابع عشر من سبتمبر من عام 1994 حين عادت إلى جمهورها بعد غياب تسعة عشر عاما هى تقريبا عمر الحرب الأهلية، التى تجملت خلالها فيروز بصمت مطبق خشية الانحياز لطائفة ضد أخرى.
فى تلك الليلة، عند المنتصف تماما من خطوط التقاطع بين أحياء بيروت المدمرة، وسط ساحة شهداء أحالتها الحرب إلى أرض خراب، تدفق ما يربو على خمسين ألف لبنانى ولبنانية من جميع المحافظات من جميع الطوائف. سُنّة وشيعة ومسيحيون ودروز، أتوا جميعا شوقا إلى صوت السيدة. وجلسوا متجاورين ينصتون فى خشوع، رافعين أبصارهم نحو مسرح زينته أشرعة سفن بيضاء. وصدح فى أثيره النشيد الوطنى.
وحين أطلت السيدة مدثرة فى عباءتها التراثية الفضفاضة، غنت كما لم تغن. غنت أغانى العشق والسلام لتكون صوت اللبنانيين جميع، لا لتُشهر قوميةً فى وجه أخرى، بل لكى تنثر فوق الرءوس الأمل بالتساوى، عطيةً مباركة من الرب الذى خلق فى صوتها حنان الدنيا وأشجانها.

•••

 

فى تلك الليلة، ورغم أنها رفضت فى بداياتها اسم شهرزاد، عادت تشدو من الأندلسيات:
أرجعى يا ألف ليلة.. غيمة العطر
فالهوى يروى غليله.. من ندى الفجر
إن أشواقى الطويلة.. أقفرت عمرى
وحكاياكِ خميلة.. فى مدى الدهر

•••

سلامٌ عليك فيروز طبت يوم وُلدتِ، ويوم صدحت بصوت الوطن، ويوم أتممت الحادية والثمانين، لك حب العمر كله.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات