تنويم..الزعيم - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 9:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تنويم..الزعيم

نشر فى : الخميس 24 يونيو 2010 - 9:43 ص | آخر تحديث : الخميس 24 يونيو 2010 - 9:43 ص

 فى إحدى أمسيات الصيف الحارة كان طبيب القيادة وكبير إخصائيى البلاد فى أمراض القلب يشاهد فيلما فى إحدى دور السينما بصحبة ابنته عندما اقتربت منه امرأة مجهولة، مالت عليه طالبة منه أن يغادر مقعده على الفور، وفى الخارج كانت هناك سيارة خاصة من سيارات المخابرات تنتظره، وفى مقر القيادة وجد الزعيم راقدا فى غرفة الاستراحة غير قادر على الحركة ويتمتم ببطء شديد يشبه الهذيان، وعرف أن الزعيم أثناء مباحثات مهمة مع ضيف كبير للبلاد، أخذ نطقه يتعثر وكانت الكلمات تخرج من فمه بصعوبة، وكان شديد الشحوب وبالغ الضعف، حتى إنه تهدل فى مقعده شبه مغشى عليه، واضطروا لحمله ونقله وتمديده على السرير فى غرفة الاستراحة.

لم ينته فحص الطبيب الكبير إلى العثور على أى سبب مَرضى يبرر الحالة التى وجد الزعيم عليها، واستعان بطبيب أعصاب مخضرم لم ينته فحصه هو الآخر إلى ما يشير إلى أى خلل عضوى، لكن طبيب الأعصاب العميق الخبرة أسرَّ لزميله هامسا فى حذر بأنه «لو لم يكن الزعيم قد مر بمفاوضات مُجهِدة ومتوترة لقال بأن ما يعانيه أشبه بحالة شخص مُرهَق ذى جهاز عصبى ضعيف تناول حبوبا منومة»، والتقط الهمس طبيب الزعيم الخاص، فأضاف أن الزعيم عندما يتعكر مزاجه يأخذ حبة أو حبتين من عقار مُهدِّئ، فترتخى أعصابه ويستقر مزاجه، ولعله تناول حبة أو حبتين أثناء اجتماع اليوم الذى كان مُتعِبا ومثيرا للأعصاب!

بعد ثلاث ساعات من الرعاية الطبية المكثفة عاد الزعيم لمواصلة المباحثات مع ضيوف البلاد فائقى الأهمية، لكن طبيب القيادة الكبير الذى لم يكمل مشاهدة فيلم كان يحضره مع ابنته فى دار السينما، راح يتابع وقائع فيلم آخر، حى وطويل، بدأ فى هذه الليلة من ليالى شهر أغسطس عام 1968، وانتهى بوفاة الزعيم المسن فى أحد أيام شهر أكتوبر عام 1982، وكانت دراما الحبوب المهدئة هى المحرك الرئيسى وراء أحداث هذا الفيلم الحى، ومادة المسخرة التراجيدية طوال الفترة الكابوسية التى خيمت على هذا البلد الكبير، والمقدمة المنطقية لسلسلة من فترات قصيرة مضطربة تولَّى خلالها القيادة رجال مُسِنُّون مُحتضِرون ممن كانوا حول الزعيم الراحل، بل إن التغيير الذى تلا هذه الفترات لم يكن إلا استمرارا من نوع آخر للنفاق الذى تأصّل فى سنوات الركود الطويلة، فقد جاء زعيم جديد أصغر سنا لكنه كان تنويعا على اللحن ذاته، بتهافته الدعائى وضوضائه الإعلامية الفارغة، فلم يثبت أمام هبة هواء ماكرة أطاحت به، وطوحت بهذا البلد الكبير فى سفوح التفكك والضياع.

قصة هذا الفيلم الحى العجيب، حكاها ضمن حكايات أخرى بروفيسور أمراض القلب وكبير أطباء الكريملين الدكتور يفجينى تشازوف فى كتابه «الصحة والسلطة»، والذى ترجمه عن الروسية وقدم له صديقى العزيز الدكتور إيمان يحيى، وهو كتاب مهم أتمنى أن يعيد الدكتور إيمان نشره فى طبعة جديدة جيدة، فهو كتاب قابل لإعادة القراءة، خاصة أن به جزءا مهما يخصنا، لأن الدكتور تشازوف كان أحد معالجى الرئيس عبدالناصر والعارفين به معرفة صادقة ومحترمة، ثم إن هذا النوع من الكتب، إضافة للتسلية التى يمنحها لقارئه عبر تتبع أسرار وخبايا السلطة، يسلط أضواء كاشفة على الكثير مما يستخفى من أسرار ما يماثلها من سُلطات. وهو فى النهاية يُعرِّى نوازع ونزاعات البشر من حيث كونهم بشرا، فى القمة أو فى الحضيض.

لم تكن قصة الحبوب المهدئة فى طوايا سيرة الزعيم السوفييتى بريجنيف إلا دالة على فساد نظام استبدادى مغلق على نفسه، ومتمحور حول شخصية رجل واحد محدود القدرات اعتلى سدة الحكم فى بلاده بالتآمر والمكر، ووطد سلطته بخلق دوائر من المنتفعين أغدق عليهم ببذخ من جيوب الدولة السرية، إضافة للقمع البوليسى المتكتم للمعارضين.

بعد ذلك أسفر الدب البشرى عن تفاهته فى الولع بقيادة السيارات الفاخرة فى بلد يرفع راية الاشتراكية ويفتقر غالبية مواطنيه إلى ما يُعتبر ضروريات فى بلدان أخرى، وجاهر بحب التمجيد والإطراء إلى درجة أنه منح نفسه ألقابا كان يطرب جدا لسماعها من منافقيه، وأوسمة كان يزين بها صدره المنفوخ بالخواء، ولم تكن أعباء السلطة بالنسبة له غير همٍّ وغمٍّ لا مسئولية كبرى ولا أمانة، فكان يهرب منها بالترف والاستجمام ومحاولة النسيان بالنوم، النوم الذى ساد فى عهده واستمر لاثنين وعشرين سنة وُصِفت بأنها «سنوات الركود».

يحكى الدكتور تشازوف أنه ومنذ ربيع عام 1973، عندما كان بريجنيف فى السابعة والستين، دخل فى دوامة تعاطى الحبوب المهدئة بوهم التغلب على نوبات أرق مستحكم، لم يكن سببها إلا ضعف شديد فى الجهاز العصبى المركزى الذى كانت هذه الحبوب تضعفه أكثر. وبالرغم من تحذير الأطباء له والحزم المخابراتى فى محاصرة مصادر هذه الحبوب، إلا أن عناد الزعيم وهول سلطاته ووفرة المتمتعين بالنفاق المدمر حول كل سلطة، جميعهم أطاحوا بتحذيرات الأطباء وتجاوزوا استحكام الأجهزة الاستخبارية، وساهموا فى انزلاق الزعيم إلى حالة متردية من الاكتئاب والخمول، وحالة موازية من اكتئاب البلاد وخمولها وصلت إلى حد المسخرة.

عام 1974 انعقدت القمة الأمريكية السوفيتية فى فلاديفوستوك بالاتحاد السوفييتى لتجنب المواجهة العسكرية بين القطبين الجبارَين وتقليص الأسلحة الاستراتيجية فى ترسانتيهما، وبينما كان أعضاء الوفد الأمريكى يخرجون متعجلين للاتصال مع واشنطن عبر سيارة مدرعة عالية التجهيزات أحضروها خصيصا معهم بهدف الاستعانة بمعلومات وخبرات المتخصصين فى العاصمة الامريكية عند الضرورة، كان بريجنيف عصبيا ومتوترا ومشغولا بالشجار مع وزير دفاعه «جريشكو» لأتفه الأسباب، وما كادت الاجتماعات تنتهى حتى خرج بريجنيف من حصاره، واستعاد إمدادات الحبوب التى أدمنها والإطراء الذى يطربه، وفى رحلة بالقطار إلى منغوليا فاجأته نوبة مما كان أطباؤه وقادة مخابراته يحاولون إخفاءه، فقد راح يهذى ويتطوح ويشيح بيديه ويلوح بهما كما لوكان «مايسترو» يقود فرقة موسيقية من الأشباح!

وهو مشهد كرره بريجنيف على الملأ أثناء اجتماعات مهمة وفى زيارات خارجية كانت فضائح من العيار الثقيل، ومع ذلك لم يجرؤ أحد من قادة هذا البلد على أن يتدخل لإيقاف المهزلة، بل إن أندروبوف، أقوى من ترأسوا جهاز الـ«كى. جى. بى»، أحد أعتى أجهزة المخابرات فى العالم، عجز عن إيقاف التأثير المدمر لممرضة شابة استطاعت أن تتقرب من الزعيم، وكانت أهم مصادر إمداده بالحبوب، وربما بوهم الحب!

يشير الدكتور تشازوف إلى هذه الممرضة بحرف «ن»، وقد وطّدت علاقتها ببريجنيف إلى درجة أنه لم يكن يتنقل إلا وهى فى ركابه ومعه حيثما حل، فى مقر القيادة الرسمى، وفى الاستراحات الخاصة، وداخل بيته الريفى، وكانت تقبض مكافآتها بأوامر مباشرة من الزعيم الوسنان المبسوط: شقة فاخرة مما كان مخصصا لقادة الحزب وكبار الدولة، وترقية لزوجها الذى قفز بسرعة الصاروخ من ضابط صغير مجهول إلى عقيد مهم بالمخابرات. ووصلت المواصل بها وبالزعيم أنها كانت تحضر معه اجتماعات القيادة العليا للبلد الذى كان قوة عالمية عظمى!

ولم يستطع أحد زحزحة الممرضة «ن» عن مكانها إلا بعد أن تردت حالة الزعيم إلى درجة الانهيار التام ودخوله إحدى المصحات السرية للعلاج. لكن الأعراض التى لا يفسرها إلا استمراره فى تناول تلك الحبوب اللعينة لم تتوقف، ورجَحَ أن من يوصلها إليه لابد أن يكون أحد أو بعض قيادات الدولة والحزب المحيطين به، والذين كانوا يُبدون له أقصى مظاهر الولاء والرياء، ومنهم شيفرنادزه الذى كان من أوائل المنقلبين على الاتحاد السوفييتى فور انهياره، وتشيرننكو أحد الذين خلفوا بريجنيف بعد موته، والذى قر فى يقين «فيكتوريا» زوجة بريجنيف أنه كان يمد زوجها بالحبوب ليقتله ويرث مكانه، لهذا لم تستقبله عندما حضر إلى بيتها ليقدم واجب العزاء فى فقيد الأمة!

لقد وقعت أحداث هذه التراجيديا فى الاتحاد السوفييتى السابق، وكان طبيعيا أن تحدث فيه، فى ظل سيطرة حزب واحد تحوَّل أقطابه إلى أباطرة يتحدثون عن الاشتراكية وهم يعومون فى بحار الاستثناءات والامتيازات والفساد الخفى، وكانت الاستحكامات البوليسية وقمع الأصوات المعارضة مما يسَّرَ لقيادات من هذا النوع أن تستمر حتى وهى غارقة فى النوم، ليس فقط بفعل الحبوب المهدئة والمنومة، لكن أيضا بفعل التنويم الذى يفعل فعله بسهولة فى قادة من طراز بريجنيف، تصلبت شرايين أمخاخهم وتيبست ضمائرهم، فكان يسيرا تنويمهم بوصلات المديح والنفاق، ليقعوا فى حبائل شياطين يوهمونهم بأنهم وصلوا إلى مصاف الآلهة، بينما ينحدرون بهم إلى أحط مهاوى الهلاك.. هلاكهم الشخصى، وتهلكة الأمم.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .