العلم والثورة - عمرو عبدالقوى - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العلم والثورة

نشر فى : الجمعة 27 سبتمبر 2013 - 8:55 ص | آخر تحديث : الجمعة 27 سبتمبر 2013 - 8:55 ص

تخيل معى أساتذة وعلماء مخضرمين يحملون فى طياتهم عقودا طويلة من الخبرة والتدريس والبحوث، يدخلون قاعة محاضرات عظيمة مرتدين أروابهم السوداء الدالة على علمهم السديد، والحضور بالقاعة جميعهم طيور! يلقى العلماء محاضرات طويلة ومستفيضة للطيور عن كيفية الطيران وفنون التحليق فى الهواء، معززين كلامهم بالمعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء، ثم مع نهاية الدروس يطلقون الطيور خارج القاعة فتطير. فيسارع العلماء إلى الجامعة ومراكز البحوث العالمية يكتبون الأبحاث والكتب بعد أن أثبتوا أن علمهم ومعرفتهم هى التى علمت الطيور فن الطيران. وبما أن الطيور غير قادرة على الكتابة فإنه من الصعب إثبات غير ذلك!

•••

هكذا نختار أن نصور الواقع، فنحن مؤمنون بأهمية العلم فى توليد المعرفة وبالتالى الثراء والتقدم كأنه اصبح السبيل الأوحد لحل المشكلات. وبالتالى ترانا نقلل من أهمية القدرات الطبيعية للإنسان والتى تمكنه من الوصول إلى حلول واكتشافات عن طريق «التجربة والخطأ»، وليس بالضرورة عن طريق التسلسل المنهجى المتمثل فى وضع النظرية ثم البحث ثم الاختراع. مع أننا لو بحثنا فى تاريخ العلم لوجدنا أن الغالبية العظمى للاختراعات توصل إليها مخترعوها عن طريق الصدفة ومنظومة تجربة وخطأ مثل الوصول إلى المضاد الحيوى واختراع المحرك النفاث، ولكن فى كل هذه الحالات تم تحليل الاختراع علميا وتوصيف عملية الاكتشاف بما يتناسب مع المنهجية العلمية بعد اكتشافه (كما فعل علماء الطيور).

وهذا المنطق والمنهج هو الذى نجدنا نطبقه حاليا لتفسير ما حدث فى مصر فى السنوات الثلاث الماضية. فبعد أن قام الشعب «بعملته» (أى بثورته)، ذهبنا إلى علماء الطيور نسألهم عن التفسير، فبدأوا فى التنظير ثم كتبوا الكتب ثم بدأت المحاضرات وامتلأت ساعات البرامج التليفزيونية وصفحات الصحف بما على الشعب أن يفعله لكى «يطير». ألم يكن قد طار بالفعل قبل هذا التنظير؟ ولما عملها الشعب مرة ثانية قال العلماء «ألم نقل لكم أننا علمناهم الطيران؟»

وبغض النظر عن القيمة الحقيقية للعلم والعلماء فهذا ليس محل مجادلة، إلا أننا بافتراض أن المعرفة لا تأتى إلا من خلال أفواه وكلمات ما نسميهم رسميا بالعلماء، نغفل الواقع الذى نعيشه والمعبأ بمعرفة لم نصل إليها من خلال الكتب، «فالعلم ليس كله فى الكراس». حياتنا وتجاربنا اليومية خير دليل على ذلك.

ماذا لو نظرنا لأحداث الثلاثة أعوام الماضية على انها «كورس» مكثف خاضه الشعب المصرى فى «ممارسات وإشكاليات الديمقراطية»، والمنهجية التى بُنى عليها «الكورس» هى منهجية التجربة والخطأ، يا ترى كم تعلم التلميذ وكم اكتشف من اكتشافات فى موضوع ومنهج حرم من دراسته وتطبيقه طوال حياته بحجة انه ليس مؤهلا؟

ازعم أن التلميذ قد تعلم الكثير فى تلك الأعوام الثلاثة، اكثر بكثير عما قد يتخيله علماء الطيور لو قاموا بتصميم منهج لهذا «الكورس». وبالطبع سريعا ما يعترض علماء الطيور بأنه لا يمكننا ترك مستقبل الشعوب لمنهجية التجربة والخطأ للإنسان البسيط فهذا خطر جدا (خاصة انه ليس منهجا علميا)!! ولهذا الزعم نجاوب بثلاثة أسئلة:

ماذا كانت تجربة عبد الناصر الاشتراكية إذا لم تكن مبنية على منهجية التجربة والخطأ؟

ما هى المنهجية العلمية التى طبقها السادات عند تحويل مسار البلد لمائة وثمانين درجة؟

ثم الم يقل حسنى مبارك بنفسه بعد توليه الحكم ببضعة اعوام «عملت ايه منهجية الشيوعية؟ اهى فشلت، احنا بنجرب واللى بينجح بنكمل فيه والى بيفشل بنغيره»؟

•••

الهدف من هذا الطرح ليس الإقلال من شأن أو أهمية المنهج العلمى، بالعكس فالمشاكل والكوارث الناتجة عن منهجية الرؤساء المذكورين أعلاه نعانى منها الآن اشد المعاناة، ولكن الهدف هو توضيح أن فى عالم العلم والعلماء هناك أيضا (كما فى الدين) المنظور الشامل المنفتح والمنظور الأحادى الحرفى (والذى يخرج منه أنواع من التطرف). فالأخير لا يعترف بأهمية المعرفة الناتجة من خارج «الكراس»، أما المنظور الشامل المنفتح فهو يرى قيمة فى كل أنواع المعرفة كان مصدرها الإنسان البسيط او العالم الحاصل على جائزة نوبل.

وبالتالى فالسؤال المطروح للمناقشة وهو موجه لعلماء الطيور، «ماذا عساكم أن تتعلموا (وبالتالى تفيدوا العلم والمجتمع به) لو أنكم دخلتم قاعة المحاضرات بعد اعترافكم بأن الطيور لديها المعرفة وقادرة على الطيران؟»

ماذا لو أقر «الخبير الاستراتيجى» (الذى يملأ ساعات الفضائيات) بأن خبرته الاستراتيجية السابقة ليست بالضرورة كافية للتعامل مع المتغيرات المعاصرة وعليه أن يرجع مرة أخرى إلى «المعمل» على ارض الواقع وأرض الميدان لتعلم اللغة والمعرفة الجديدتين التى أضافتهما الطيور لهذا الواقع، وذلك قبل افتراض أن آراءه الشخصية تمثل العلم أو المعرفة الصالحة لتوجيه مستقبل المجتمع.

وكذلك بالنسبة للصحفى، الذى اكتسب أهمية غير متناسبة مع دوره فى توجيه الرأى العام نتيجة لارتباطه بوسيلة إعلام (صحفية او محطة فضائية) وليس بالضرورى من خلال قدرته على البحث عن وإظهار الحقيقة. عليه هنا أيضا أن يعيد النظر فى أولوياته ومسئولياته تجاه المجتمع فى نقل حقيقة «طير الطيور» كما هى من وجهة نظر الطيور وليس طبقا لميوله وأهوائه الشخصية.

•••

المشهد اليوم للأسف تغلب عليه الصورة التى ترسمها الفضائيات والصحف، والتى يغلب على قراراتها روح المنافسة على أذان وعقول المشاهدين وهو المنطقى لطبيعة نشاطها التجارى. ولكن هذه المنافسة تؤجج منافسة اخرى جوفاء بين الخبراء والعلماء (علماء طيور)، فيصبح كثير منهم (وليس الكل) معنيا أكثر بالحفاظ على مركزه الريادى فى المشهد أكثر من الوصول إلى حقيقة مفيدة ذات مغزى ومنفعة.

ومن منطلق حجم الوجود الإعلامى نرانا كمجتمع منساقين الى تصديق خرافة أن هؤلاء العلماء هم الذين علموا الطيور الطيران، وبالتالى نتنازل عن الحقيقة التى نعيشها بالفعل كفاعلين أساسيين نصنع المعرفة، ونقبل بدور التابع والمفعول به.

دعونا نعترف بأن الشعب يعرف الطيران وبأن هذه الحقيقة هى التى سلبت منه طوال العقود الماضية. ودعونا ننظر بعيون ناقدة للمنهجية الحالية والغالبة على المشهد السياسى والإعلامى حتى لا نساهم فى إعادة سلب هذه الحقيقة منا بعد أن استرجعناها بصراع ودماء.

عمرو عبدالقوى أستاذ العمارة بالجامعة الامريكية بالقاهرة
التعليقات