حكايةٌ من المدينة المنورة - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكايةٌ من المدينة المنورة

نشر فى : الإثنين 30 أكتوبر 2017 - 9:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 30 أكتوبر 2017 - 9:21 م
كانت الطائرةُ قد اجتازت لتوها البحرَ فى طريقها إلى الرياض. وكانت تلك أول رحلة أكون فيها وحدى مع ابنى الذى لم يكن عمره وقتها قد تعدى العام ونصف العام. لم أكن قد جربت تلك المشاعر التى كنتُ مقبلة عليها فى تلك اللحظة البعيدة فى ذاكرتى حين بدأت الطائرة تهتز بقوة، وراحت محركاتُها تصدر حشرجة عنيفة، وسقطت علينا صوانى الطعام التى كانت ما تزال ممدودة، وتعالى صوت قائد الطائرة فى المذياع داعيا الجميع إلى البقاء فى أماكنهم وربط الأحزمة والتزام أقصى درجات ضبط النفس. فما إن أتم كلماته حتى انفرجت فتحاتٌ فى السقف فوق رءوسنا وتدلت منها خراطيم منتهية بكمامات الأكسجين. لن أنسى فى تلك اللحظة أحد الصحفيين الأجانب، الذى كان موجودا على متن الطائرة وكان أول همه وسط الفزع والهرج والصراخ أن يرفعَ كاميرته ليلتقط مشهد تدلى الخراطيم فوق الرءوس وسريان المضيفات بكماماتهن الخاصة فى الممرات. 

راحت الطائرة تهبط وتهبط بسرعة جنونية. سرعةٌ صارخة بصوت الموت إذا ما استُدعِى على حين غرة. اختل منسوب الضغط ووقعت حالاتُ إغماء. قاسيةٌ هى تلك اللحظات الختامية وبين يديك فلذة كبدك وأحب الناس إليك فلا تجد ما تدفع به القضاء عنه أو عن نفسك. كان ينظر إلى وفى عينيه فزعٌ صامت، على عكس الأطفال الآخرين الذين انطلقت حناجرهم بصراخ يبارون به ولولة أمهاتهم. فأحكمتُ الكمامة على وجهه ونظرتُ فى عينيه بكل ما أوتيتُ من حبٍ حتى ابتسم. عندها احتضنته ومسدتُ شعره وجعلتُ أهمس فى أذنه بآيات الذكر، فما كان منه إلا أن نام بين يدى. فكانت لحظة نومه أشبه بواحة وسط صحراء، غابت فيها الأصوات، وسكنت فيها نفسى، بعد طول سعى بين الجبليْن بحثا عن الماء والظلال. عزائى ألا يتألم هو، ألا يَفزع هو. فما أوتيتُ من شجاعة يغطى نقاط ضعفى كلها فيما عداه هو.

***

هل رأيتم وجه الرحمة؟ أنا طالعتُه فى تلك اللحظة التى لا تُنسى. لحظة النجاة. وكأن السقف انشق وتجلت من فوقه السماءُ بكثبان السحاب القطنى، وتبدى وسطها طائرٌ هائلٌ يطير بجناحين عظيمين، فما إن اقترب حتى تبين لى إنها امرأةٌ مجنحة، كائنٌ نورانى فى عباءة زرقاء، له وجه فينوس كما رسمها ساندرو بوتيتشيلى قبل ستة قرون. أبصرتُها تمسك بالطائرة وتحملها فوق كتفيها وتفرد جناحيها إلى أقصى مدى مثلما تحكى حكاياتنا الشعبية. فإذا بصوت قائد الطائرة يعود مبشرا: «السادة الركاب، أنقذتنا العناية الإلهية وسنهبط هبوطا اضطراريا فى مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز فى المدينة المنورة». فانطلقت الحناجرُ بالصلاة على الرسول، وزغردت نسوةٌ، والتفتت جارتى إلىَّ مهنئة ثم قالت فى ابتهاج: «هل تعلمين أن أفخر متاجر الذهب موجودة فى المدينة، لابد وأن نذهب للتسوق فور الوصول»!

كدتُ ألا أصدق أذنى! أتراها قدرات خاصة تتمتع بها تلك الجارة فى المراوحة بين حدى الخوف والانشراح فى أقل من ثوانٍ معدودة، أم أنها طبيعةٌ متأصلة فى الإنسان تنسيه أقسى آلامه وأعنف تجاربه وتقذف به فى أحضان النهم وشهوة الحياة؟ ربما هو رد فعل لحظى يكافح به المرءُ ذلك الاقترابَ الوثيق من حدود انتهاء الأجل عن طريق المسارعة تلقائيا إلى أقسى حدود المتعة الحسية.

ــ حمدا لله على السلامة! 
قلتُها باقتضاب لأُنهى أى جدال محتمل حول أسواق الذهب، وعدتُ إلى وجه الصغير النائم أقبِل جبهته حامدة سلامته فيما عجلات الطائرة تصافح أسفلت المَدرج هادرة، والملاك المجنح يعود إلى سماواته محلقا.

***
عدنا إلى الأرض، واستقبلتنا إدارة المطار بزجاجات الماء البارد والعصائر واتصالات فورية بشركة الطيران لتهيئة طائرة بديلة. ولما طال الانتظار، وبدأ التململُ يسرى بيننا، وعاد الصغار يطلقون حناجرهم فى كورال الصراخ المنتظم، وقف بيننا شيخٌ واهن وبدأ يخطب فينا بلهجة صعيدية تأبى الوهن. قال متهكما: «ألسنا مصريين؟؟.. لن تسأل عنا شركتنا ولن تلتفتَ إلينا الحكومة!» مرت سنواتٌ طويلة على الحادثة ولا تزال مرارة كلماتِه تأتينى كلما شعر الناسُ بالخذلان أو طال عليهم الصبر ولم يبصروا مرفأ للأمان.

لكننى فى ذلك العهد البعيد كنتُ ما زلت أحتفظ بروح معنوية لم يطَلْها التهكمُ أو تنشر فيها السخريةُ بذور الشك. فقمتُ من مجلسى وأسلمتُ الصغير إلى جارتى الحالمة بأسواق الذهب وذهبتُ لإجراء اتصال هاتفى.

ــ ألو.. ممكن أكلم حرم السفير؟ (..) فى مصر؟ فضلا أكلم السفير لو تكرمت؟ (..) نعم يا فندم شكرا على استقبال الاتصال. نحن ركاب طائرة مصرية هبطت اضطراريا فى المدينة المنورة ونحتاج طائرة بديلة.
ــ ومن أين لى بطائرةٍ بديلة الآن؟ انتظروا حتى الصباح.
ــ يا فندم معنا أطفال وعجائز.
ــ الصبر! سنحاول إيجاد حل عند الصباح.
ــ شكرا يا فندم، سلامى لحرمكم المصون، أبلغها تحياتى، أنا صديقتها فلانة الفلانية. الصحفية.
ــ أهلا دكتورة، لا تقلقوا سنتصرف على وجه السرعة.

عشرون دقيقة وكان بيننا المندوب، وأحضرت الحافلات، وتم تسكيننا فى فندق لصق المسجد النبوى الشريف، فما إن دخلنا البهو حتى هرع الجميعُ إلى البوفيه المفتوح فى المطعم. عندها، وما إن تأكدت النجاة، جلستُ وحيدة فى البهو وأطلقت العنان لشحنة البكاء. 

فما إن فرغ الآكلون من مطعمهم حتى بدأ توزيعنا على الغرف، وكان نصيبى أن تكون شريكتى فى الغرفة السيدة راعية الذهب. كانت قد أكلت وشبعت واحمرت وجنتاها بفعل الحبور. فما إن أغلقنا بابنا حتى هاجَتْها نوبةُ جنونِ الفكرة الثابتة وطالبتنى بمصاحبتها إلى أسواق الذهب.

فما كان منى إلا أن أزحت ستارَ الشرفة عن آخره لتتبدى من ورائه مئذنة الحرم النبوى كأقرب ما تكون، وكأن كوكبا دريَا قد هبط من سمائه إلى جوارنا وأرسل أنواره داخل الغرفة. قلت لها: انظرى. أتتركين هذا؟ أتستبدلين بالنور معدنا وإن كان ثمينا؟ حتى اسمه «ذهب»! ينبئنا لغويا بأنه ذاهبٌ ذات يوم وإن ابتعد!

فبُهتت وسألتنى: «إنتِ بتشتغلى إيه بالظبط؟ أكيد غنية ومستغنية»!

فحملتُ الصغير فوق كتفى، مثلما تحمل الفلاحة زلعتها عند النهر، وخرجتُ به إلى المسجد، كان قد أفاق وقتها وراح يرسل ضحكاته ومناغاته لكائنات حولنا غير مرئية، دَلَفَتْ لا ريب إلى الغرفة مع الأنوار ورافقتنا إلى مقصدنا. وحين دخلنا المسجد، كان وقت زيارة النساء قد حان. رأيتهنَ يهجمن جميعا باتجاه الروضة الشريفة، فيممتُ وجهى إلى الممر المؤدى إلى غرفة عائشة حيث قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابييه الجليلين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. كانت ثمة حارسة واقفة على رأس الممر تمنع تدفق أفواج النساء من الدخول. كانت تكشف وجهها على غير العادة فبدت ملامحها كوجهٍ مألوف رأيته من قبل. أين يا ترى؟ لست أذكر. حييتُها بأدب وقلتُ لها إننى من مصر، وإننى قد شارفتُ على الموت، وإن الأقدار قد ساقت طائرتى إلى المدينة، وإن هذا هو أول عهدى بمسجد رسول الله؟ فهل سمحتِ لى سيدتى بالمرور؟ فابتسمت ومدت ذراعها ممسكة بطرف عباءتها ثم بسطت كفها مرحبة داعية إياى إلى الدخول.

هناك، أمام القبر الشريف، وقفتُ وحيدة، أحمل الصغير، وقد امتلأتْ نفسى امتنانا لله على تحويل مسار الطائرة. «السلام عليك يا رسول الله»، هتف بها قلبى قبل أن ينطقها لسانى.

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات