فقه العلاقات الدولية (3) العهد والأمان فى الإسلام - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فقه العلاقات الدولية (3) العهد والأمان فى الإسلام

نشر فى : الجمعة 31 أغسطس 2012 - 8:55 ص | آخر تحديث : الجمعة 31 أغسطس 2012 - 8:55 ص

فى ميدان السياسة تزدحم قواميس جميع اللغات بمفردات متقاربة أو مترادفة، ومن هذه المصطلحات: العهد، الأمان، الذمة، الهدنة، والصلح... إلخ، وتلك كلها مصطلحات متقاربة، فضلًا عن ترادف بعضها. والمفهوم المركزى لهذه المصطلحات جميعها هو مفهوم العهد.

 

والقرآن الكريم وهو أساس المرجعية العليا وأصلها، قد حفل بطائفة من هذه المصطلحات، مثل: العهد، والميثاق، والعقد، والوعد... إلخ.

 

وينشئ القرآن الكريم نظرية العهد والميثاق باعتبار العهد منظومة إسلامية تسرى فى كل المعاملات والعادات، وخصوصًا فى العلاقة مع الآخرين سياسة وحربًا.

 

فانظر أولًا تعظيم القرآن للعهد، وتعظيمه الوفاء به، فيقول: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} (التوبة: ١١١)، فالله ذاته رغم ألوهيَّته وربوبيَّته يَفِى بعهده لجميع خلقه، بل ويوثِّق ذلك فى القرآن.

 

وثانيًا: يحرِّض القرآن المؤمنين على ضرورة الوفاء بالعهد: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا...} (النحل: 91).

 

وثالثًا: يشير القرآن إلى أن الله سيحاسب الناس على مدى وفائهم بالعهد: {... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34).

 

ورابعًا: يصف القرآن المؤمنين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8)، وكذلك: {وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (البقرة: ١٧٧)، وكذلك: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الأحزاب: ٢٣)، وكذلك: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (آل عمران: 76).

 

وخامسًا: جاء القرآن من اتجاه آخر، فهاهو القرآن يبين صفات الفسق والفاسقين فيقول: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ...} (البقرة: 27)، ويقول: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: 20)، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77).

 

وقد حفلت السنة النبوية الشريفة بنصوص مراعاة العهود وضرورة الوفاء بها، وأذكر أشهر هذه الأحاديث النبوية؛ نظرًا لقلة عدد ألفاظه، وكثرة معانيه، فضلًا عن الإعجاز اللفظى فى التشريع النبوى، كما نرى فى قوله : «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، والمقصود الشرعى بالذمة العهد الدائم أو الموقوت؛ فالعهد الدائم هو عقد الذمة، والعهد الموقوت: هو عقد أو عهد الأمان.

 

وقد تعمدت التعبير بقولى: إن فى لفظ الحديث إعجازًا تشريعيًّا، هو لفظ «أدناهم»؛ وذلك لاتساع المعانى الواردة فى ذلك اللفظ النبوى وتعددها:

 

فلفظ «أدناهم» أولًا يستوعب الإشارة إلى جواز وإلزام العهد ولو صدر من عدد قليل، ولو فرد واحد، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ...} (المجادلة: ٧)، فالأدنى هنا مقابل للأكثر، فإذا أعطى فرد مسلم واحد أمانًا لشعب غير مسلم فلا يحلُّ لجميع المسلمين نقض هذا العهد.

 

وثانيًا: يستوعب لفظ «الأدنى» معنى «الدنو» وهو «القرب»، فالمقترب من العدو، سواء أكان قربًا جغرافيًّا أو قربًا نفسيًّا أو تقارب علاقة، فإذا منح المسلم عهدًا بالأمان لغير المسلمين القريبين منه أو المتعاملين معه، فإن عهد الأمان ملزمٌ لجميع المسلمين ويحرُم تجاوزه، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم: 9)؛ أى أقرب.

 

وثالثًا: يستوعب لفظ «أدناهم» معنى «دناءة المنزلة»، كالفاسق غير الملتزم بتعاليم الدين، أو ما يعبِّر عنه الناس بأنه الشخص الخسيس، فنقول حتى وإن كان الشخص المسلم خسيسًا فى أخلاقه، فإذا منح هذا الخسيس عهدًا بالأمان لشعب بأكمله لأصبح العهد ملزمًا، ودليلنا على استيعاب لفظ «أدناهم» لهذا المعنى قول الله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } (البقرة: ٦١)، والمقابل للخير هنا عديم الخيرية ضعيف الشأن.

 

رابعًا: يستوعب لفظ «أدناهم» معنى الشخص الصغير، فلو أعطى طفل مسلم عهدًا بالأمان لشعب غير مسلم لوجب على المسلمين الوفاء والالتزام بهذا العهد، ودليلنا على استيعاب اللفظ لمعنى الصغير قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة: 21).

 

هكذا تجد هذا الحديث النبوى يعبِّر أفصح وأشمل تعبير عن اعتماد الإسلام لسياسة السلام أصلًا، كما يقرر الوفاء بالعهد شريعة ملزمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات