المحللون - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المحللون

نشر فى : الأربعاء 17 مارس 2010 - 9:36 ص | آخر تحديث : الأربعاء 17 مارس 2010 - 9:36 ص

 هناك نوعان من المحللين.. أولهما يعنى بالبحث العلمى، إذ يقوم شخص متمكن من المعرفة فى مجال معين بتناول قضية أو مشكلة أو ظاهرة بالفحص والتأمل، وينتهى إلى نتائج منطقية يعرضها على المختصين أو العامة. وقد شهدنا فى الآونة الأخيرة موجة عاتية من التحليلات، بعد أن دخل الساحة كل من يملك قلما يدبج به مقالات مستفيضة، أو لسانا يتخذه أداة لتشنيف أسماع أولئك الذين يتنقلون بين قنوات التليفزيون فإذا به يطاردهم من قناة لأخرى.

ولن أستفيض فى الأحداث التى أشبعت تحليلا، وأكتفى بالإشارة إلى الأزمة الطاحنة التى أطاحت بمؤسسات عملاقة فى لحظات، ووجد فيها أولئك المحللون فرصة هائلة، عملا بنصيحة مواجهة التحديات وانتهاز الفرص. ولكونى تعلمت وعملت حينا بالاقتصاد، لم أجد بدا من أن أصمت وأنصت لعلنى أجد فيما يقال ما غاب عن أذهان علماء الاقتصاد.. فقد علمتنى مهنة التدريس أن سؤالا أو ملاحظة من طالب لا أعده من النجباء قد تلهمنى فكرة لم يكن ليتطرق إليها علماء أجلاء. غير أنه عندما بدأت الأمور تختلط مع تمادى الدخلاء، هممت يوما بالكتابة محذرا من تلك الظاهرة، التى يتحول فيها أى عابر سبيل إلى محلل قادر على اختراع نظريات علمية وإثبات قدرتها على تفسير الأحداث وصولا إلى نتيجة كانت هى أول ما قفز إلى ذهنه، فاجتهد فى إبهار الآخرين بقدراته الفذة. غير أن الأخ العزيز الدكتور أحمد يوسف أحمد سبقنى بنشر مقال فى «الشروق» فى 3 يونيو 2009 تحت عنوان «المقاومة وحديث السخرية» بدأه بعبارة «مسكين حقا ما يسمى بعلم السياسة» بعد أن لاحظ كثرة الفقهاء الذين يتناولون عملية المقاومة بنظريات يخترعونها من وحى الخاطر، ويطبقونها للتدليل على فكرة استقرت فى أذهانهم، معتبرين أن هذا حق مشروع لهم. فكان ما يجول بخاطرى أن علم الاقتصاد هو المسكين حقا، ربما بقدر أكبر لأنه يمس حياة البشر الذين يعيشون عالما تجتاحه ثورة المعلومات والاتصالات التى تطلعهم على أحداث بعضها يمسهم عن قرب، وأغلبها لا يعنيهم من قريب أو بعيد. وشكرت له إشارته، التى أراحتنى وأراحت القراء من تكرار الشكوى.

ذلك النوع من التحليل رافق الإنسان منذ بدء الخليقة، وسيستمر يصاحبه إلى يوم الدين، لأنه يرضى فضول الإنسان فى بحثه عن الحقيقة، ويجعله يلبى أمر الخالق عز وجل بالتبصر فى شئون الحياة. أما النوع الثانى ــ وهو مقصدى الأساسى هنا ــ فيندرج تحت عنوان قيام الإنسان بدور «المحللاتى» أى من يتعرض لفعل هو أصلا محرم، سعيا لإكسابه ثوبا يظن أنه يستر آثامه فيجعله يبدو حلالا طيبا، منكرا للقول الحكيم بأن «الحلال بيّن والحرام بيّن». ويبدأ الأمر أولا على سبيل المغالطة، ثم يتحول إلى مكابرة، وينتهى إلى أن يصدق المحلل أكاذيبه، فإذا به يتحول إلى داعية يروج لمقولات يتهم مفنديها بالجهل والضلالة، بل وقد يصبح محاربا يتفانى فى الدفاع عن وجهة نظره ولو بحد السيف. ولا يكتفى مثل هؤلاء القوم بتأكيد سلامة مقولاتهم، بل غالبا ما يدفعهم الشعور بوهن الأسس التى بنوها عليها بالتصدى لما يغايرها بالتفنيد، ولو كانوا مناصرين لها فى السابق. ويساعد على اختلاط الأمور أن الحقبة الأخيرة شهدت من تلاحق الأحداث المتضادة ما يجعل الناس فى حيرة من أمرهم. ومن أبرز هذه الأحداث ما يتعلق بأسس النظم التى تحكم المجتمع فى ظل مقولة إن الأحدث هو الأفضل، وإلا ما تخلى البشر عما هو أقدم. من الأمثلة القريبة إلى الذاكرة، ما أعقب انهيار النظم الشيوعية من وصف الرأسمالية الفجة بأنها نهاية التاريخ، ثم التراجع غير المنظم عن الذم فى تدخل الدولة فى شئون الاقتصاد لتبرير تحميل الدولة مسئولية إنقاذ القطاع الذى سيقت الأيمان المغلظة بتأكيد أنه القائد للتنمية.

فى ظل هذه الأوضاع المختلطة قليل هم من يتداركون الانزلاق إلى درك التبرؤ من الماضى بحلوه ومره، فينجون بأنفسهم قبل أن يفوت الأوان. وليسمح لى الأخ العزيز الدكتور يحيى الجمل أن أشيد بقراره بالانسحاب من الجوقة التى تنكرت لنظام وفر لها مكانة لم تكن تحلم بها ولكنها باتت تتطلع إلى الاستيلاء على السلطة، متجاهلة مقولة كان يرددها الدكتور خيرى عيسى على مسامع طلبته فى مدرجات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومنهم ابنتى التى تتعدد المناسبات التى تستعيدها فيها: «السلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة إفسادا مطلقا». وأعتقد أن القراء الأفاضل يوافقوننى على أن الدكتور الجمل لم يكسب فقط اعتزازه بذاته، بل ونال تقديرنا البالغ له، وبالمثل الذى ضربه لقدوة أصبحت نادرة فى عصرنا هذا.

كان هذا منذ ثلاثين عاما، وهو تاريخ أذكر له أننى تعرفت فيه على الدكتور على الدين هلال من خلال دراسة قيمة شاركه فيها الأخ جميل مطر نشرها لهما مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «النظام الإقليمى العربى» تناولت بالتحليل العلمى المؤصل، العلاقات السياسية العربية، خرجت بمفهوم الوطن العربى من نطاق التصور الجغرافى ــ التاريخى المبهم، إلى المجال العلمى الرصين، فأعيدت طباعتها سبع مرات خلال ما يقارب ربع قرن، لتصبح من الباقيات الصالحات. ومن بين إسهاماته الأخرى التى تصب فى نفس الموضوع، ما أنجزه فى 1988 مع د.أسامة الغزالى حرب ود.عبدالمنعم سعيد وآخرين عن «العرب والعالم» ضمن مشروع مركز دراسات الوحدة العربية حول استشراف مستقبل الوطن العربى. ثم واصل دراساته مع ذلك المركز وغيره إلى أن نشرت له منذ نحو سنتين الطبعة الرابعة من كتاب مع د.نيفين مسعد، حول «النظم السياسية العربية: قضايا الاستمرار والتغيير». ولعل فى هذا العنوان الأخير تنويه بما أصابه شخصيا: فواضح استمراره فى تحليل أوضاع الأمة العربية، من حيث النظم السياسية والعلاقات الدولية. غير أن ما يقلقنى بالنسبة لشخص أعتز بمعرفته وأقدر غزير علمه، هو ما أعتقد أنه قد أصابه من تغيير، لعله يساعدنى على تصويب تقديرى إن كنت مخطئا.

لعل ما يحمد للنظام الحالى ــ رغم عوراته العديدة ــ إفساحه موقعا متميزا لشخصية هذه قامتها، وأعتقد أنها صفقة رابحة للنظام، ولكنها خاسرة لصاحبها. ويظهر هذا من الحرص على استغلال قدراته فى مجال الشباب والرياضة ثم الإعلام عن نشاط الحزب الحاكم.. وما أدراك ما الحزب الحاكم. وقد تجلى مؤخرا اقتران الهزال فى مجال الرياضة بالغوغائية فى مجال الإعلام، وكانت الخسائر فادحة فى المجال الذى أشبعه بحثا وتمحيصا، وهو العلاقات الدولية على الصعيد العربى.. ويا للعجب. ونحمد الله أننا ابتعدنا عن المونديال إما بالمشاركة فيه أو باستضافته، اكتفاء بصفره، وإلا لوجد نفسه مضطرا للدفاع عن إنفاق مبالغ تحتاجها نواحى تهم حياة الناس اليومية، فى وقت شح فيه السولار لا الدولار، والخبز لا الكافيار. إلا أنه يعز علينا أن نستمع إليه وهو يستشهد بأرقام يعتقد أنها تنبئ عن حسن أداء النظام، تظهر تراجع نسب وفيات الأطفال وامتداد عمر الإنسان المصرى، للتقليل من شأن من يريدون الوصول إلى التغيير من باب الدستور. إنى وقد تجاوزت الخامسة والثمانين (بفضل ربى لا منة من النظام القائم) كنت أود أن أسعد فيما تبقى لى من أيام بثمار تنمية أزالت عن الشعب الفشل الكلوى والالتهاب الكبدى الوبائى، وقضاء اليوم فى صراع من أجل أنبوبة بوتاجاز، والمعاناة من السكرى بعد أن شح السكر، واختلال منظومته التعليمية، وتفشى الفقر بين أبنائه، ليشغل موقعا متدنيا من العالم فى قائمة التنمية البشرية، القائمة على معالجة ثلاثية «الفقر والجهل والمرض» التى كثيرا ما رددتها خطب العرش فى عهد كان الحكم فيه بالتوريث.

أود من صميم قلبى أن يتفرغ للتحليل العلمى بدلا من اتهام راغبى الإصلاح بأنهم «ناس بتجعر»..اللهم قد جعرت.. اللهم فاصفح..

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات