هوامش على دفتر أشعار الحرب - يحيى عبد الله - بوابة الشروق
الأربعاء 16 يوليه 2025 7:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

هوامش على دفتر أشعار الحرب

نشر فى : الثلاثاء 15 يوليه 2025 - 8:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يوليه 2025 - 8:55 م

تقربنا كتابات المحللين السياسيين من عقل السياسى، وطريقة تفكيره، وتستشرف، قدر الممكن، ما قد يقدم عليه من خطوات وما قد يتخذه من قرارات؛ وتساعدنا قراءة الأدب، بأجناسه كافة، فى بلورة فكرة عن الحالة الوجدانية للناس، وعن انطباعاتهم، خاصة فى ظل الحرب.

فى إسرائيل، لا تتوقف ماكينة الأدب. تواصل الليل بالنهار. تضخ كل يوم منتجات أدبية، متنوعة، وكأنها فى مهمة قتالية لا تنتهى، لا تقل أهمية عن حمل السلاح. فقد صدر، فى إسرائيل، خلال العام المنصرم -2024م- عددٌ مهولٌ من الكتب العبرية والمترجمة إليها -ما يقرب من 7000 كتاب (6928 كتابًا على وجه التحديد)، بزيادة قدرها نحو 1000 كتاب عمَّا صدر فى عام 2023م، الذى لم تصدر فيه، تقريبًا، كتبٌ فى الشهور التى تلت السابع من أكتوبر2023م، من بينها 548 كتابًا يتناول حرب «طوفان الأقصى»، بحسب تسمية «حماس» لها، أو «السيوف الحديدية»، بحسب التسمية الرسمية الإسرائيلية لها.

تتناول الكتب، فى الأغلب الأعم، تداعيات الحرب ليس على المجتمع الإسرائيلى فقط وإنما على يهود العالم، أيضًا، حيثما كانوا، إذ تلقت المكتبة القومية فى إسرائيل، بناءً على طلبها، 392 كتابًا، وإصدارًا، يتعلق بالحرب، كتبها أبناء الطوائف اليهودية فى مختلف أرجاء العالم، الأمر الذى يشير إلى أن يهود العالم يتفاعلون مع مجريات الأحداث فى إسرائيل، بل يرون أنفسهم جزءًا لا يتجزأ منها، وهو ما تجلى فى انخراط أعداد كبيرة منهم فى الجيش الإسرائيلى، والمشاركة فى القتال جنبًا إلى جنب مع اليهود الإسرائيليين خلال الحرب.

من اللافت للنظر فى الإصدارات، المتعلقة بتداعيات الحرب، إلى أن نسبة كبيرة منها خُصصت للأطفال والشباب، مع ما يعنيه ذلك من رؤية الأدباء لضرورة تلقين هذه الفئة العمرية، المهمة، السردية التى ستلازمهم طوال حياتهم عن كل ما يتعلق بالحرب، و«حتميتها»، وربما عن «عدالتها»، من وجهة النظر الإسرائيلية، وتبرير ما يُقترف خلالها من أهوال، وقتل للنساء والأطفال، والشيوخ، وقصف للمستشفيات، ودور العبادة، والمؤسسات التعليمية، ومنازل الأبرياء، وطرد الناس من بيوتهم، والسعى لإجلائهم عن أرضهم.

يسكت الأدب العبرى، فى الأغلب الأعم، عن هذه الأهوال، ويغض الطرف عنها، ولا يشير إليها إلاَّ لمامًا، ويركز على أوجه معاناة الإسرائيلى من الحرب فقط، من قبيل إخلاء آلاف من المستوطنين من شمال وجنوب إسرائيل من منازلهم خلال الحرب، وتأثير استدعاء أفراد الاحتياط، لفترات طويلة، على الكيان الأسرى، ومسألة الهرولة المتكررة إلى الملاجئ، وصافرات الإنذار التى لا تنقطع، وحالات الثكل، والحداد، وما شاكل ذلك، وهو ما يحتاج دراسة وتعمقًا.

• • •

ورغم أن إسرائيل بها ما يزيد عن مليونى مواطن من فلسطينيى 48 يحملون الجنسية الإسرائيلية (2.037 مليون) يمثلون نحو 21.1% من مجموع السكان فى دولة إسرائيل، فإن نسبة ما ينشرون باللغة العربية لا يتجاوز 2% فقط من مجمل ما يُنشر، مقارنة بـ 93.4% باللغة العبرية، و5% باللغة الإنجليزية، وهى نسبة ضئيلة تثير علامات استفهام حول إسهامهم فى كتابة سردية تختلف عن السردية الإسرائيلية، بحكم انتمائهم الوطنى المفترض، وبحكم درايتهم بطريقة التفكير الإسرائيلية.

تشير معطيات المكتبة الوطنية فى إسرائيل إلى أنه قد صدر من بين الـ 7000 كتاب 2272 كتابًا فى الشعر والنثر، و1405 كتب للأطفال والشباب، و548 كتابًا عن الحرب 37% منها عن تأثير الحرب على الدولة والمجتمع، و21% عن الحرب، والدين واليهودية. سيركز المقال على بعض الإصدارات فى مجال الشعر، ومنها مجموعة شعرية تدور كل قصائدها فى أحد المستشفيات، التى تعج بالمصابين، وتوفر إطلالة على المجتمع الإسرائيلى الذى تركت الحرب ندوبًا غائرة فى جسده.

فى إحدى القصائد، يتماهى الأنا الشعرى مع الأمر الإلهى، المزعوم، لإبراهيم، بمغادرة أرضه، ووطنه، الذى نشأ فيه (أور الكلدانيين بجنوب العراق)، والرحيل إلى أرض كنعان (فلسطين): «وقال الرب لأبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أريك» (سفر التكوين، الإصحاح 12، 1). يقول الشاعر، أبرام العصر، الذى يرى أن «رسالته» تكمن فى تفقد أوجاع الإسرائيليين، المصابين فى المستشفى (المعادل الموضوعى للأرض الموعودة)، وفى معرفة من سيُكتب له البقاء على قيد الحياة، ومن سيفارق للدار الآخرة: «ثم اذهب (فذهبتُ) إلى دار الاستشفاء/ دار الأولى والآخرة».

ومع أن الموت واحد، كما يقول الأثر العربى: «تعددت الأسباب والموت واحد»، فإن الشاعر يكتشف فى المستشفى صنوفًا عديدة من الموت، منها ما هو أفقى، ومنها ما هو رأسى، ومنها ما يسَّاقط كالألعاب النارية، ومنها ما يرتسم متمددًا على الوجه، ومنها ما هو قدرى، ومباغت، ومنها ما هو عرَضى، وعفوى، ومنها ما هو مترقب، ومتوقع: «موت عمودى، موت أفقى/ ينسكب مثل الألعاب النارية/ يتمدد على الوجه/ موت مقنع وإله آخر... يتراقص مكعب من القدر فى زاويته/ موت فى حالة انتظار، موت مباغت، عفوى».

يتأمل الأنا الشعرى، الداخلين والخارجين من المستشفى، فيرى ما أصاب المجتمع الإسرائيلى من أوجاع مؤلمة خلال الحرب: «كل ممر من اللوبى يقود إلى ألم... أسى فى الحياة، وأسى فى الممات، وجسد عالق بينهما»؛ ثم يتحدث عن كظم مشاعر الكراهية- تُرى أهى كراهية للآخر الفلسطينى، أم للساسة، الذين يورطونه فى حروب لا تنتهى؟-، وعن إخفاء رائحة الدماء، التى تملأ أرجاء المستشفى: «تُحفَظ الكراهية هنا فى الجيوب/ مع حرص على ألاَّ تُفتح.../ وتُغرَق رائحة الدم بالمنظفات.../ فى اللوبى، فى منطقة ما قبل العمليات الجراحية، ما قبل الأشعات، ما قبل الولادة، ما قبل الفرصة، مدخل فسيحٌ جدًا يتسع لمائة مصلٍ ولمائة كافر».

فى إحدى القصائد، التى تدور داخل أروقة المستشفى، يتأمل الشاعر -الذى تقتل دولته عشرات الأطفال يوميًا فى غزة، بلا رحمة أو شفقة- طفلة رضيعة تنام فى مهدها المتواضع ببهو المستشفى، لكن خياله المريض، وحالة الخوف، المفتعلة، التى تتلبسه، يصورانها له طفلة فلسطينية، قد تمثل خطرًا: «ربما ولدتها «مخربة» (فلسطينية)/ ربما رُبطت بها قنبلة/ ربما تكون الماشياح/ ربما تكون إحدى الناجيات من (كيبوتس) بئيرى.. ربما تستحق، فى نظرها، الانتصار، بأى ثمن، ربما نرفع اليدين (نستسلم)، نخجل، نستجمع قوى، ننكسر كى نُبنَى مجدداً، نقسم ألاَّ ننكسر أبدا».

تتطرق بعض القصائد إلى حالة اليأس، التى تصيب الإسرائيلى، وإلى فقدان الرغبة فى الحياة بسبب أهوال الحرب: «نحن نسير كما الموتى/ نحن نأكل ذبائح موتى»(…) لا شمس، لا عصفور حسنًا، جميلاً// كل الأرض ظل (شر) مقيم/ ينبعث من الحريق»، فيما يتطرق البعض الآخر إلى حالة الحزن، التى تعم المجتمع: «كنا محاطين بالحزن/ وخطواتنا كلها تدق حزنًا/ نمنا وصحونا من الخطو إلى الحزن».

تتحدث بعض القصائد، بقلق واضح، عن المستقبل المجهول للأطفال الإسرائيليين فى ظل استمرار الحروب: «وعلى رصيف آخر، مقابل، تقف حياتنا وسط دوائر هوائية/ يلوّح الأطفال، بأيديهم، إلى/ لا قطار».

• • •

القتال ساحة واحدة من الساحات المتعددة للحرب، ومنها الأدب. نحن، إذًا، أمام محاولات، دؤوبة، لكتابة وتثبيت سردية إسرائيلية عن الحرب، بمختلف الوسائل الممكنة: الأدبية، والسياسية، والإعلامية، والفنية وغيرها. لا تفوت إسرائيل نافذة إلاَّ وعرضت سرديتها عبرها. ومن المثير للدهشة، وللأسى، أن بعض المنابر الإعلامية العربية تردد السردية الإسرائيلية من دون تمحيص وتدقيق.

السؤال الذى يجب أن يُساَل: إذا كانت إسرائيل، بعدد سكانها الذى لا يتجاوز العشرة ملايين، تنتج كل هذا الكم المهول من الكتب فى السنة الواحدة، فأين هى إصدارات الفلسطينيين، وهم لا يقلون عددا، بل يزيدون، وأين سرديتهم عن الحرب، وأين إصدارات العالم العربى، الذى يفوق عدد سكانه عدد سكان إسرائيل عشرات المرات، وأين إسهام مسلمى العالم فى هذا المجال، فى مقابل إسهام يهود العالم من أجل إسرائيل؟! وإذا لم تكن الجرائم التى ارتكبتها، وترتكبها، إسرائيل ستهز الضمائر، وتجرى مداد الأقلام الآن، فمتى، إذًا؟!.

إن الحسرة لتصيبنى كلما شاهدت وفودًا من ذوى الأسرى الإسرائيليين وهم يجوبون عواصم الدول المؤثرة فى العالم، ويجتمعون مع كبار الشخصيات فيها، بتنسيق من الخارجية الإسرائيلية، يقدمون سردية كاذبة، ويعرضون مواد يوقنون أنها مفبركة، ويلحون فى تثبيتها. لكن الظن، أن صورة الضحية، التى برعت إسرائيل فى تقديمها عن نفسها، فى الماضى، لم تعد تنطلى على أحد. لقد اتضحت صورتها الحقيقية. صورة الدولة التى ترتكب جرائم حرب على مرأى ومسمع من كل العالم دون أن يرف لها جفن.  

 

يحيى عبد الله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات