ثمة إجماع بين المراقبين، على أن البابا، فرنسيس - خورخى ماريو برجوليو - سابقًا - الذى رحل عن عالمنا فى 21 أبريل 2025م، كان بابًا استثنائيًا، بمفاهيم عديدة للغاية، بحسب البروفيسور، ميخال سيجل، الخبيرة فى الشئون اليهودية/ النصرانية، فهو أول بابا ينتخب من خارج القارة الأوروبية منذ القرن الثامن للميلاد من الأرجنتين من القارة الأمريكية، ما يعكس اتجاهات تغيير بين معتنقى الكاثوليكية، ومن ثم، فهو ليس محسوبًا على النخبة الثقافية الأوروبية. وهو جزءٌ من محفل يسوعى كبير جدًا بداخل الطائفة الكاثوليكية، تأسس عام 1540م، يركز على التربية والتبشير، يُقْسم أعضاؤه ليس على الأيْمان الثلاثة، المعهودة، التى يقسمها الرهبان، وهى: التقشف، والزهد فى الجنس، والامتثال، وإنما على قسم الولاء الشخصى للبابا. ومن ثم، كان مطالبًا، بأن يكون وفيًا لنفسه. وهو أول واحد يُنتَخب من بين أعضاء هذا المحفل.
عاش البابا، حياة متواضعة، إذ يُحكَى أنه استقل الحافلة، عندما انتُخب، فى البداية، إلى الفندق الذى أقام به، وأصر على دفع الحساب، واستبدل سيارات لامبورجينى الفارهة بسيارات بسيطة، ورفض الإقامة فى القصر البابوى الفخم، وحوله إلى متحف مفتوح للجمهور، وفضل الإقامة فى دور الضيافة مع القساوسة العاديين، وغيَّر الصليب المرصَّع بالألماس وبالأحجار الكريمة إلى صليب عادى نسبيًا، ولم يرتد الثياب البابوية الفخمة، وإنما اكتفى، بشكل عام، بالرداء الأبيض البسيط، وبالحذاء الطبى الأسود (من المفترض أن ينتعل البابا حذاءً أحمر خاصًا، تنتجه ورشة «ستافنلى» الشهيرة)، ولم يستهوه أن ينحنى أحد له أو أن يجثو عند قدميه، وحاول حتى تجنب أن يقبل أحد يده.
أراد البابا، فرنسيس، أن يكون قريبًا من الناس، ولذا أمر بإزالة الطبقة البلاستيكية الواقية من الرصاص من على زجاج سيارته، وردًا على التحذير بشأن إمكانية تعرضه للاغتيال، قال: «فليكن، فليقتلونى».
• • •
ثمة اختلاف بين المراقبين حول التغيير، الذى أحدثه البابا، فرنسيس، خلال فترة ولايته الطويلة فى منصب البابوية (2013م-2025م)، باستثناء التغيير على مستوى السلوك الشخصى. يقول البروفيسور، أفيعاد كلاينبرج، إن البابا، فرنسيس، «لم يكن ثوريًا فى آرائه، ولا إصلاحيًا، وظل، بشكل عام، فى نطاق التوافق». فقد أكثر من التصريحات، التى استهوت وسائل الإعلام، وألف رسالة مطولة، وعامة، عن المحبة وأهميتها؛ وحين سُئل عن رأيه فى الكهنة المثليين أجاب: «من أنا حتى أحكم عليهم؟». لم يقل إن المثلية ليست خطيئة؛ ولم يُجز تكريس النساء للكهانة، ولا زواج الكهنة؛ ولم يمل إلى إلقاء عظات توبيخية، ولم يهدد من أوقع أذى بالفقراء، بحرمان كنسى أو بالخلود فى نار جهنم.
صحيحٌ، أنه انتقد الرأسمالية المتوحشة، وعارض صناعة السلاح، بعامة، والسلاح النووى بخاصة، ودعا إلى تقليص الفجوات الاجتماعية مع التركيز على منع تفشى الجوع وتوفير الطعام للجميع، لكنها مجرد تصريحات لا تتجاوز حدود القول.
سعى البابا، فرنسيس، إلى إجراء حوار بين الأديان، وبين تيارات أخرى فى النصرانية ليس من موقف استعلائى كاثوليكى، كما يقول، رافى شوتس، سفير إسرائيل السابق لدى الفاتيكان، وأطلق مبادرات شتى فى هذا الصدد.
• • •
يمكن القول، فيما يخص موقف البابا، فرنسيس، تجاه اليهودية واليهود، إنه واصل الاتجاه الذى تبنته الكنيسة الكاثوليكية فى ستينيات القرن الماضى، طبقًا للبروفيسور، ميخال سيجال، وهو الاتجاه القائل بأن النصرانية هى الشجرة وإن اليهود جذورها. تبلور هذا الاتجاه، الذى يُعدُّ انقلابًا فى موقف الفاتيكان، والكنيسة الكاثوليكية تجاه اليهود، وتجاه اليهودية، وتجاه دولة إسرائيل، لاحقًا، بعد المحرقة النازية، بمبادرة من البابا، يوحنان الثالث والعشرين. صيغ هذا الاتجاه كتابة فى وثيقة «نوسترا أتاتا» ــ وثيقة أقرها مؤتمر الفاتيكان الثانى عام 1965م ــ وتتناول علاقة الكنيسة بالأديان غير النصرانية ومن بينها اليهودية والإسلام ــ التى رفضت اتهام كل اليهود بصلب يسوع، واعترفت بالجذور اليهودية للنصرانية، وأكدت على العلاقة الروحية العميقة بين الديانتين.
يشير، رافى شوتس، إلى أن موقف البابا الراحل تجاه اليهود كان إيجابيًا فى أساسه، وإن اتهامه بمعاداة السامية اتهام داحض. وقد عبَّر البابا عن هذا الموقف، خلال لقاء مع رجل دين إيرانى؛ حيث قال: «ليست لى مشكلة مع اليهود، وإنما مع القتلة منهم»، قاصدًا بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، المتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، والمطلوب للعدالة الدولية.
مع ذلك، يذهب الحاخام سرخيو برجمان -رئيس الاتحاد العالمى لليهود التقدميين، الوزير السابق فى الحكومة الأرجنتينية، والصديق المقرب من البابا- إلى أن نظرة البابا ملتبسة إزاء اليهود ودولة إسرائيل، إذ يقول: «يجب أن نفرق بين نظرة البابا لليهود ونظرته إلى دولة إسرائيل. هو لم يفهم جوهر دولة إسرائيل بوصفه تحقيقًا لحقنا فى الوجود على ضوء رؤيا أنبياء بنى إسرائيل، لم يفهم أنه شىء أصيل وتوراتى يرتبط بهويتنا. هو توقف عند سياسة الحكومة الإسرائيلية ورفض الرؤيا، وهذا من وجهة نظرى كارثة. كان بوسعه أن يفرق بين السياسة والرؤيا، وأن يؤيد دولة إسرائيل، وهو أمر كنت أتوقعه منه».
يتوقع الحاخام، سرخيو برجمان، من البابا، شأنه شأن دولة إسرائيل، أن يصطف معها اصطفافًا مطلقًا، من دون أى انتقاد لممارسات وحشية ترتكبها، جهارًا نهارًا، ويتوقع منه، أن يقمع، أيضًا، كل صوت يحتج فى أى بقعة فى العالم على هذه الممارسات: «لم يقل (البابا) شيئًا عندما هتف أناس فى لندن، وفى نيويورك، وفى حرم الجامعات الشهيرة، «فلسطين حرة من النهر إلى البحر»».
• • •
فيما يخص موقفه من الحرب على غزة، لم يفوت البابا، فرنسيس، مناسبة، إلا وندد بالممارسات الوحشية التى تمارسها إسرائيل ضد المدنيين فى غزة، بعبارات لا تقبل التأويل، إذ اتهمها، بقتل الأطفال، وبقصف المستشفيات والمدارس: «إسرائيل تحصد أرواح الأطفال بالرشاشات وتقصف المدارس والمستشفيات بالطائرات فى القطاع.. يا لها من وحشية، هذه ليست حربًا». وتطرق، فى عظته السنوية أمام دبلوماسيين أجانب، إلى حالات الموت التى حدثت فى أعقاب الشتاء والبرد الشديدين فى قطاع غزة، قائلاً: «لا نستطيع أن نقبل بأى حال من الأحوال قصف المدنيين فى غزة. لا نستطيع أن نقبل أن يتجمد أطفال حتى الموت بسبب تدمير المستشفيات أو بسبب تضرر إمدادات الطاقة».
وتحدث عن استخدام إسرائيل لسلاح التجويع، وعن الإبادة الجماعية فى كتاب جديد له، نُشرت مقتطفات منه: «إننى أفكر أكثر من أى شىء آخر فى أولئك الذين يغادرون غزة، وفى الجوع الذى أصاب الإخوة الفلسطينيين بسبب صعوبة إدخال الطعام والمساعدات للمناطق. ما يحدث فى غزة، طبقاً لكلام بعض الخبراء، به سمات إبادة جماعية. علينا أن نحقق جيدًا لكى نحدد ما إذا كان هذا مطابقًا للتوصيف الفنى الذى صاغه قضاة وهيئات دولية»، مضيفًا: «كل البشر يستحقون الكرامة والحرية، لكن هناك، اليوم، من يريدون استعباد الناس، والبشرية جمعاء من أجل تحقيق أهدافهم».
ورغم أن البابا سعى لأن يكون متوازنًا فى موقفه، واجتمع، فى الفاتيكان، مع أسرى إسرائيليين، أطلق سراحهم، ومع عائلات أسرى، ما يزالون فى قبضة «حماس» فى نوفمبر 2024م وقال: «إننى أصلى من أجلكم ومن أجل شعبكم. الأمر الأهم هو إنقاذ الناس»، وفرَّق، فى نقده للممارسات الإسرائيلية، بين سياسات دولة إسرائيل وحكومتها واليهود واليهودية، فإن إسرائيل عاقبته بتقليص مستوى تمثيلها فى جنازته، وحذفت وزارة خارجيتها تغريدة العزاء فى وفاته، وأمرت السفراء والممثليات الإسرائيلية بعدم نشر بيانات حداد على وفاته، ما جعل رؤساء الطائفة الكاثوليكية فى إسرائيل يكتبون خطابًا ساخطًا إلى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، جاء فيه: «قرأنًا بقلق بالغ وبغضب كبير، خطاب وزارة الخارجية الإسرائيلية بمنع السفراء والممثليات الإسرائيلية من نشر بيانات حداد على وفاة البابا فرنسيس. هذا القرار، شأنه شأن عدم نشر بيان مواساة إسرائيلى رسمى، هو بمثابة إهانة خطيرة ليس للمواطنين الإسرائيليين النصارى فقط وإنما للنصارى فى جميع أنحاء العالم».
وقال مسئول رفيع فى الكنيسة الكاثوليكية بإسرائيل إن السلوك الإسرائيلى «محيرٌ جدًا وانتقامى»، بسبب النقد الذى أبداه البابا ضد الجرائم التى ترتكبها إسرائيل فى غزة.
مع وفاة البابا يبدأ اجتماع الكرادلة دون سن الثمانين (138 كردنالاً) فى ما يُعرف باسم عملية «الكونكلافا» («الجمعية» باللاتينية، وهى هيئة تابعة للكنيسة الكاثوليكية من القرن الحادى عشر) فى غرفة لا يغادرونها من اللحظة التى يدخلونها إلى أن يتخذوا قرارًا. وهم يصوتون تصويتًا سريًا.
يشير، رافى شوتس، إلى أن 75% من الكرادلة الذين لهم حق انتخاب البابا الجديد عينهم البابا فرنسيس، خلال فترة ولايته التى امتدت 13 عامًا، وينحدر معظمهم من التجمعات الكاثوليكية الجديدة، وليس من المستبعد أن تكون النتيجة اختيار بابا جديد، من أصل آسيوى أو حتى أفريقى ذى بشرة سوداء، يعكس الديموجرافيا الكاثوليكية المتغيرة. إذا لم يتخذ المجتمعون قرارًا، تلون البطاقات بلون يجعل الدخان المنبعث عن حرقها (من مدخنة الكاتدرائية) أسود، أما إذا اتخذ قرار فإنه يكون أبيض، وهو مصدر التعبير «إلى أن ينبعث دخان أبيض».