بداية، أود الاعتذار للمواطن المصرى البسيط الذى يتم شغله الآن بكثير من التفاصيل الفنية التى لا تعنيه مباشرة فى شئون العدالة، وكثير من التفاصيل القانونية التى تشغل الجميع عن القضايا الأساسية التى يتعين أن تكون محل الاهتمام والتركيز، فما يعنى المواطن مباشرة بالعدالة هو سيادة القانون وتحقيق العدل والقضاء المستقل وتقريب جهات التقاضى وتنفيذ الاحكام القضائية تنفيذا أمينا وصادقا، دون لدد او عنت فى الخصومة، من جانب الدولة على الأقل.
ويعلم الجميع ان القضاة (كطائفة) غير ممثلين فى لجنة الخمسين، لأنهم، وفق ما تم إعلانه عند تشكيل هذه اللجنة، كانوا ممثلين فى لجنة العشرة (الخبراء)، ولجنة الخبراء مكونة من ستة من كبار مستشارى السلطة القضائية سنا وأقدمية ومكانة علمية وأدبية بالإضافة إلى أساتذة أجلاء متخصصين فى القانون العام الدستورى والإدارى.
وهؤلاء قاموا بصياغة تعديلات لدستور 2012 وركزوا على النصوص الخاصة بالسلطة القضائية لأنهم ــ على الأقل ــ أهل التخصص فى هذه الجزئية، وكان ذلك فى حضور ممثلين لهيئتى قضايا الدولة والنيابة الإدارية، اللتين تطالبان الآن بتوسيع اختصاصاتهما على حساب مجلس الدولة.
والسؤال عندى وعند كثيرين: هل يجوز للجنة الخمسين ان تطرح كل ما قامت به لجنة العشرة حتى فى خصوص نصوص السلطة القضائية؟ وهل الإعلان الدستورى الأخير جعل ما تنتجه لجنة العشرة لغوا او هباء منثورا حتى تتعامل معها لجنة الخمسين بهذه الطريقة؟
وإذا كان مشروع الدستور، على نحو ما أعلن عنه، يتجه نحو فرض قيود على السلطة التشريعية فى تعديل قوانين السلطة القضائية باشتراط أغلبية خاصة لتعديل القوانين المنظمة لشئونها، لضمان ان التعديل فى تلك القوانين يعبر عن الجميع، ولضمان عدم انفراد حزب او فئة او جماعة بما يمكن معه العبث بالسلطة القضائية.. فهل يصح فرض نصوص دستورية على القضاة جبرا تنظم أخص خصائصهم دون الرجوع لهم وموافقتهم وعليها، أو حتى الاستماع الى منطقهم والرد عليهم بالردود العلمية والحجة المنطقية؟
إن قيام لجنة نظام الحكم المنبثقة عن لجنة الخمسين، بليل وفى غفلة من الزمان، بسلب الاختصاص التأديبى من مجلس الدولة، وتصويت اللجنة على إسناده إلى هيئة النيابة الإدارية، وإنشاء كيان قضائى جديد يختص بالقضاء التأديبى، هو أمر يفتقد لأبسط قواعد اللياقة والمنطق.
فمن باب افتقاد اللياقة، كان يتعين استطلاع رأى مجلس الدولة صاحب الاختصاص المستقر والاستماع له قبل التصويت، وكان هذا أوجب ابتداء على النيابة الادارية التى تطمع فى هذا الاختصاص عند التقدم بهذا المقترح، دون مبرر مقبول او منطق علمى سائغ وفق التقاليد القضائية التى يفترض فى الهيئة الإلمام بها.
والواقع أن مجلس الدولة هو من طلب عقد لقاء مع اعضاء لجنة نظام الحكم لاستيضاح الأمر.
ومن ناحية افتقاد المنطق، فظنى أنه لم تقدّم إلى اللجنة أية دراسات علمية أو إحصائيات او تجارب مقارنة تبرر هذا الاقتراح الفج، ويبدو ان منطق النظام القضائى المزدوج غائب عن لجنة نظام الحكم، فالدول التى تطبق النظام القضائى المزدوج ومنها مصر وتأخذ بنظام المحاكم ذات الولاية العامة ومحاكم القانون العام، تقوم على اساس فلسفى بسيط، هو عدم تساوى الخصوم فى الوسائل والاهداف.
وللإيضاح، فإن الدولة خصم قوى، يملك جميع الصلاحيات والمستدات والنفوذ والقوة فى مواجهة الفرد الضعيف. وفى ذات الوقت، هذا الفرد الضعيف عندما يقيم دعواه، فإنه يطالب فى معظم الاحوال بمصلحته الشخصية الخاصة، فى حين ان الدولة أعطيت هذه الصلاحيات لأنها تحقق المصلحة العامة.
وبين هذه الاعتبارات المختلفة يوازن القاضى الإدارى ويحقق العدالة الإدارية متبعا قواعد خاصة فى الإجراءات والإثبات وتوجيه الخصومة، وجميع هذه الاعتبارات قائمة دون شك فى المنازعة التأديبية والمنازعة الادارية على السواء، وليس هناك أى منطق فى إنشاء هيئة قضائية جديدة تقوم على ذات الأساس الفلسفى.
ويصعب علىّ توجيه قولى إلى لجنة الخمسين الذين لهم فى نفوسنا كل التقدير والاحترام على ما يبذلونه من جهد حقيقى فى سبيل الارتقاء بنا نحو وضع دستورى افضل التزاما بخارطة الطريق، وأوضح ان الدستور الحقيقى هو التعبير عن لحظة التوازن داخل المجتمع المترجمة فى وثيقة سياسية اجتماعية قانونية، وهذا يستتبع الا تكون المسائل الخلافية التى ليست محل توافق مجتمعى فى الدستور محلا لنصوصه الا اذا كانت متعلقة بأساس الدولة وأركانها الرئيسية.
وان المنطق العادل لأى تعديل دستورى او تشريعى ينبغى ان يكون للأفضل وللتحسين وللتطوير، وليس للمجهول! وليست مهمة لجنة الخمسين على الاطلاق فرض امر واقع على المواطنين او طائفة منهم، ولن يقبل المواطنون أى شىء غير عادل او غير منطقى او غير علمى.
إن وظيفة الدستور ليست ان يتدخل واضعوه لفرض امور تنظيمية جبرا لا يعلم ما وجه المصلحة العامة فيها، وبها مظنة عدم الإحاطة بجوانب الموضوع او المجاملة والمحاباة، بل ان وظيفة الدستور ان يعبر عن الحدود الدنيا من التنظيم التى اتفق المجتمع عليها.
ان مجلس الدولة لم يتغول على اختصاص ايه جهة او هيئة قضائية اخرى، او يطلب اختصاصا ليس ثابتا له او مستقرا له منذ عام 1946، بل العكس تماما هو الصحيح، فالمجلس لم يسع إلى النص على تلك الاختصاصات الا بعدما ثبتت له من واقع التجربة العملية الممتدة على مدى سنين محاولات السلطة التشريعية والتنفيذية الانتقاص من صلاحياته تقويضا لمهمته، وليس صحيحا أن المشكلة الآن تكمن فى الهيئات القضائية وانه لا علاقة للجنة الخمسين بهذا الخلاف، بل المشكلة فى النصوص المفاجئة التى وضعت بليل دون دراسة وتبنتها لجنة نظام الحكم سواء لهيئة النيابة الادارية او هيئة قضايا الدولة دون الاستماع لجميع وجهات النظر ودون الإحاطة الدقيقة بجميع الجوانب الفنية للموضوع.
مستشار فى قسم التشريع بمجلس الدولة