تغيرت هندسة العلاقات الدولية فى العقود الأربعة الماضية على نحو غير مسبوق بحيث بدأت الآثار السياسية للحرب العالمية الثانية تتوارى ويبرز مجتمع دولى جديد له خصائصه المختلفة وسماته المتميزة، ومنذ سقوط حائط برلين وبروز سياسة الوفاق بين المعسكرين القديمين الاشتراكى والرأسمالى إلى جانب تفتت الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتى السابق ونحن نواجه تساؤلات كثيرة، يدور معظمها حول استشراف المستقبل ومحاولة التنبؤ بما هو مقبل من خلال دراسة المعطيات المتاحة وفهم أساليب التفكير الحديثة المسيطرة على مراكز صنع القرار فى العواصم ذات التأثير فى مسار العلاقات الدولية المعاصرة.

الظروف اختلفت والأوضاع تطورت وأصبحت الدولة الوطنية هى الأهم أولا وثانيا لدى أصحابها، بينما انهارت إلى حد كبير الأطروحات القومية ولم تعُد التجمعات الإقليمية حتى تلك التى تتميز بطابع قومى قادرة على توجيه السياسة الدولية أو التوجهات الإقليمية، فلقد أصبحنا أمام عالم تسيطر فيه الدولة الوطنية وتتراجع فيه التكتلات بل وتختفى بعض التجمعات، والأهم من ذلك كله هو أن الأحلاف السياسية بدأت تأخذ شكلا مختلفا على غير ما استقرت عليه أدبيات تلك الأحلاف فى القرن العشرين وما قبله. لقد أصبحت الأحلاف حاليا ناقصة وليست بالضرورة تعبيرا عن تطابق فى المواقف أو حتى تقارب فى السياسات، كما أن حركة تلك الأحلاف أصبحت تتميز بما نسمّيه بالسرعات المتفاوتة. فربما يكون هناك تقارب بين مجموعة دول باتجاه معين ولكن ذلك لا يعنى أن الارتباط بينها دائم أو أن السياسات متلازمة وربما تتفق الدولتان «أ» و«ب» فى عدد من القضايا، لكنهما تختلفان فى عدد آخر وذلك لا يمنع الحديث عن مفهوم الحلف الناقص ولا يقلل من أهمية التنسيق بين الدولتين فى المجالات جميع، والآن دعنا نطرح ما يمكن أن يفسّر ما أوردناه:

أولا: حدثنى بعض الدبلوماسيين الشباب ذات يوم عن دهشتهم من مواقف موسكو السياسية، فهى تتساهل مع تركيا فى مواقف لو جرت لدول أخرى لكان رد الفعل مختلفا تماما، ثم هم يُفاجأون بأن حلفاء روسيا السوفيتية هم أصدقاء للغرب، فيما تبدو العلاقات بينها وبين زعيمة المعسكر الاشتراكى لعقود عدة علاقات ملتبسة وغير واضحة. لقد فزع كثير من المصريين، على سبيل المثال، نتيجة للموقف الروسى المتعاطف مع إثيوبيا فى محاولتها العبث بالحصة السودانية والمصرية من مياه النهر بعد بناء سد النهضة. وما زلت أتذكر أن السعودية ومعظم دول الخليج لم تكن لها علاقات دبلوماسية مع روسيا السوفيتية ولكن الأمور تغيرت وجلس فلاديمير بوتين إلى جانب ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان يشاهدان مباراة كرة القدم على اعتبار أن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للودّ قضية.

ثانيا: لا أظن أن هناك دولة كبرى أو قوة عظمى تراجع حاليا سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التى عكف خبراؤها على دراسة الأسباب التى أدت إلى تحفظ كثير من الشباب المعاصر من مختلف الأقطار على سياسات واشنطن، على الرغم من اعترافهم بأن الدبلوماسية الأمريكية تسعى حاليا إلى إصلاح أوضاعها ومراجعة سياساتها بعد مرحلة من التخبط بلغت ذروتها فى غزو العراق بعد أفغانستان، حتى جاء الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترمب واتخذ مواقف متشنجة فى علاقات بلاده الحادة بالصين وغيرها من القوى الكبرى والصغرى ذات المستقبل الواعد فى العلاقات المتشابكة للعالم الذى نطل عليه منذ بدايات هذا القرن.

ولعلى أعترف هنا أن الحرب الباردة لم تنتهِ نهائيا ولكنها أطلت بأساليب جديدة، فنحن من دون شك أمام حرب باردة اقتصادية بطابع مختلف، تتمحور حول منظمة التجارة الدولية التى تأتى أهميتها بالنسبة إلى الدول الكبرى تالية مباشرة لمجلس الأمن ثم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فهذه المؤسسات العالمية الثلاث هى موضع الاهتمام الكبير من القوى الفاعلة فى عالم اليوم، ولاحظنا فى الأعوام الأخيرة أن الحرب الشرسة ذات طابع اقتصادى وبلغت حدا كبيرا من التنافس المحلى على المواد الخام وفى الأسواق، فضلا عن اتخاذ المعونة الفنية والدعم المادى طريقا للسيطرة على الدول والشعوب.

ثالثا: إن الصراعات الدولية والنزاعات الإقليمية بدأت تستحوذ على قدر كبير من جهود المجتمع الدولى ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تجاوزه إلى ما يمكن تسميته بحرب الأوبئة والتنافس اللاأخلاقى أحيانا بين شركات الأدوية، فأصبحت صناعة الدواء فى المرتبة التالية مباشرة بعد صناعة السلاح. إننا أمام عالم مختلف بغير جدال تختفى فيه الكثير من القيم وتطل من خلاله أفكار شريرة وسياسات عبثية مع رغبات محمومة تجسد أنانية الدول وتراجع روح العطاء الإنسانى التى كانت موجودة من قبل! ولذلك فإننا نلفت النظر إلى التغييرات الجذرية التى بدأت تطل علينا من كل اتجاه. وعلى دول الشرق الأوسط العربية والأفريقية منها أن تلتفت إلى الطبيعة الشرسة لصراعات الغد ومنافسات اليوم، ولعلنا نلاحظ أن هناك هجمة شرسة على دول الفرص الجديدة فى أفريقيا ومحاولة استنزافها امتدادا لتاريخ طويل من الترويج للعبودية واعتناق الأفكار العنصرية التى يجب أن تنتهى بفضل التقدم العلمى وشيوع التعليم والاهتمام بالرعاية الصحية.

رابعا: لعلنا نلاحظ الآن مما أوردناه أن تعبير المحور يبدو أكثر ملاءمة بديلا لكلمة الحلف، فالمحور متغير بطبيعته متطور بنوعيته وهو أقرب ما يكون إلى مفهوم الحلف المتحرك المفتوح للانضمام إليه أو الخروج منه، ونحن نسمّى مثلا العلاقات المصرية بكل من اليونان وقبرص بأنها محور لدول ثلاث فى شرق المتوسط ولا نعطيها صفة الحلف بما ترتبه الكلمة من التزامات قانونية وأطر دستورية، لذلك فإننا نقول بكل اطمئنان أن الأحلاف الناقصة مظهر من مظاهر الحياة المعاصرة فى عالم اليوم.

خامسا: يظل كل ما ذكرناه طرحا نظريا ما لم نضِف عليه تأثير التكنولوجيا الحديثة والتطور الهائل لوسائل الاتصال المعاصرة وهو أمر تشعر به كل المؤسسات الدولية والهيئات المتصلة بالتكنولوجيا العصرية والأساليب التقنية الجديدة التى يمكن بها قياس الرأى العام واكتشاف ردود الفعل والتنبؤ بسياسات الأطراف الأخرى من خلال التحليل العلمى الذى يخضع لضوابط ربما لم تكُن متاحة من قبل.

إن التقدم التكنولوجى فتح أبوابا لعصر جديد لا بد من أن يختلف بالضرورة عن سابقيه كما أنه يتميز بسرعة الإيقاع والذكاء الشديد حتى الاصطناعى منه، فنحن مقدمون على عالم «الروبوت» والإنسان الآلى بحساباته العلمية التى سوف تغير الكثير من الأطروحات القائمة، إننا أمام عالم مختلف شكلا وموضوعا بفعل التكنولوجيا التى تولدت من توظيف العلم لخدمة الصناعة مع تشجيع روح الابتكار والربط بين رأس المال والبحوث العلمية المتقدمة.
إننا أمام دنيا جديدة لم تكُن معروفة لآبائنا وأجدادنا ولكنها بالتأكيد سوف تكون معروفة أكثر لأبنائنا وأحفادنا، فلكل عصر رموزه مثلما أن لكل حلف سياسى أو تجمع اقتصادى طبيعته وظروفه المحيطة وأهدافه المحددة، لقد بدا واضحا أمامنا حاليا أن هناك تحالفات ناقصة ومحاور إقليمية تبشّر بعصر جديد وعالم مختلف.
نقلا عن إندبندنت عربية