ضرورة تصحيح استبعاد الصين من مشروع العاصمة - فاروق حلمى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضرورة تصحيح استبعاد الصين من مشروع العاصمة

نشر فى : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:10 م
كان استبعاد الشركة الصينية المشاركة فى تنفيذ مشروع العاصمة الادارية الجديدة أمرًا غير صائب بكل المعايير. فقد حرص الرئيس السيسى منذ توليه الرئاسة على أن يجوب أنحاء المعمورة ساعيا لاجتذاب استثمارات تفيد فى تنشيط اقتصادنا المتعسر وخلق فرص عمل للمواطنين، وذهب إلى الصين عدة مرّات باذلا أقصى الجهد لاستمالة حكومتها وشركاتها للتعاون فى مشروعاتنا القومية الكبرى، كما استقبل الرئيس الصينى بالقاهرة حيث أعطى التعاون المشترك دفعة مؤثرة للأمام.

ولقد أسهم هذا فى تشجيع المزيد من الشركات الصينية على توظيف استثماراتها لدينا، فى وسط اهتمام زعماء هذا البلد بتفعيل مبادرة «الحزام والطريق» الرامية لإحياء طريق الحرير القديم من خلال تنمية الدول الواقعة على امتداده. فإلى جانب انشاء «منطقة التعاون الاقتصادى المصرية الصينية» فى شمال غرب السويس، وقيام 68 شركة معظمها صينية ــ رغم الشكوى من المعوقات ــ باستثمار قرابة مليار دولار فى بناء 12 مصنعا وخدمات متكاملة وتوفير ألفى فرصة عمل بالمرحلة الأولى، مستهدفة رفع الرقم إلى 40 ألف فرصة وتحقيق 11.5 مليار دولار مبيعات سنوية ــ إلى جانب هذا، تقدمت شركتان صينيتان حكوميتان عملاقتان للمشاركة فى تنفيذ مشروع العاصمة الجديدة، متعهدتان بتوفير 35 مليار من بين الاستثمارات المستهدفة لمرحلته الأولى والبالغ مجموعها 45 مليار دولار، مما يبرز اهتمام الجانب الصينى بمساندة أهدافنا بقدر يفوق أى طرف آخر.

***
كان من حسن الطالع أن تكون احدى هاتين الشركتين شركة «سى.اس.سى.اى.سى»، وهى التى اعتبرت منذ 2012 احدى أكبر 100 شركة فى العالم بتصنيف «فورتشان جلوبال» الشامل لأكبر 500 شركة، وأتمت حتى سنة 2013 تنفيذ 5600 مشروع فى 116 دولة واقليم بقيمة تعاقدية 99 مليار دولار وايرادات فاقت 77 مليار دولار، وذلك فى مجالات الأشغال والمرافق العامة والمكاتب الحكومية والبنية الأساسية والانشاءات العقارية والاسكان والتصنيع والطاقة والبتروكيماويات والنقل والاتصالات اللاسلكية والمطارات والموانئ والسكك الحديدية والأنفاق والكبارى والطرق ومعالجة المجارى وتوفير المياه والمراكز الطبية والفنية والتعليمية والرياضية وغيرها فى جميع القارات ودول متقدمة كالولايات المتحدة، وكان من بين عملياتها انشاء مركز المؤتمرات الدولى بالقاهرة.

تتباهى هذه الشركة بأنها تنافس فى تنفيذ المشروعات بأقل تكلفة وتديرها بجودة عالية، مستغلة امكاناتها الضخمة وقدرتها على السيطرة الحازمة على تكلفة الانتاج ونوعيته وتقديم الخدمة الرفيعة بالمستويات العالمية. ومكّن الشركة من تحقيق ذلك اشتراك أربع عمالقة فى تكوينها: مؤسسة الدولة للهندسة الانشائية والمؤسسة القومية للبترول ومؤسسة مجموعة باوستيل ومؤسسة ساينوكيم للبتروكيماويات وهم من أكبر 500 شركة بالعالم. وحصل فرع الشركة للشرق الأوسط فى مايو الماضى على جائزة الميدالية الذهبية ــ التى ينظمها المجلس البريطانى للسلامة ــ من بين 436 شركة من أنحاء العالم، لتميّز أدائها فى ميادين السيطرة والتعامل مع الطوارئ ومنشآت الأمان.

وحضر الرئيسان المصرى والصينى لدى زيارة الأخير للقاهرة فى يناير 2016 توقيع عقد اشتراكها فى المرحلة الأولى للمشروع بسنواتها الثلاث باستثمار قدره 15 مليار وقرض قيمته 3 مليارات دولار، للاضطلاع بأربعة مشروعات تتضمن مبانى 12 وزارة والبرلمان ومركزا للمؤتمرات ومجمعا للمعارض. كما وقع اتفاق آخر للنوايا فى أغسطس 2016 لبدء تنفيذ الحى الحكومى خلال أيام، ووعدت الشركة بتخصيص أفضل فرقها لتنفيذ العقد وأعربت عن الاستعداد للاضطلاع بمشروعات أخرى للصناعة والمدن الصناعية فى مصر.

***
والتزمت الشركة الحكومية الثانية «سى.اف.ال.دى» المتخصصة فى بناء وتشغيل المدن الذكية المتكاملة بتوفير 20 مليار دولار من استثمارات المشروع على مدار عشر سنوات، وهى التى لا تقل مؤهلاتها ودورها البارز دوليا عن زميلتها المذكورة فى أسواق أوروبا والولايات المتحدة وشرق وجنوب آسيا وغيرها. وتم فى أكتوبر الماضى توقيع مذكرة تفاهم بينها وبين الحكومة المصرية بشأن اشتراكها فى تنفيذ المرحلة الثانية التى تشمل مبانى ادارية ومنشآت صناعية وخدمات وبنية أساسية على مساحة 60 كيلومترا مربعا. ووعدت الشركة بتنظيم عقد منتدى بالصين لتشجيع الاستثمار بمصر بمشاركة 3 آلاف من شركائها من كبريات الشركات العالمية للاستثمار، بمن فيهم المستثمرون المحليون والأجانب المتنقلون معها فى مشاريعها من مدينة لأخرى. وتتوقع الشركة أن تولّد مشاركتها 25 ألف وظيفة فى الأشهر الـ 18 الأولى وبإجمالى 300 ألف وظيفة فى السنوات العشر.

وبينما تعدّ الشركة حاليا لتقديم خطتها النهائية للجانب المصرى، فإنها تحث على أن يتزامن مع ذلك توفير حكومتنا لحوافز محددة تتضمن اعفاءات ضريبية وضمانات تحويل العملة للخارج ومرونة فى تصاريح العمل وتراخيص الانشاءات وتخفيف القواعد البيروقراطية وغيره.

***

الا أن الشركة المصرية المكلفة بتنفيذ مشروع العاصمة الادارية ــ التى تملكها كل من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزارة الاسكان ــ فاجأتنا بالإعلان عن استبعاد شركة «سى.اس.سى.اى.سى»، مرجعة ذلك لعدم التوصل لاتفاق معها بشأن سعر تنفيذها للمتر المربع، وتقدم شركات المقاولات المصرية بسعر أقل مما تقرر معه أن يعهد إليها به. وتوقعت أن يتم الاتفاق مع الشركة الثانية «سى.اف.ال.دى» وتوقيع العقد النهائى معها خلال 6 أشهر.

وأوضح مصدر بالشركة أن الشركة الصينية طرحت سعر 1800 دولار للمتر المربع شاملا للبناء والتشطيب الداخلى والخارجى وأعمال الالكتروميكانيكال التى تمتاز بها هذه النوعية من البنايات، ومنظومة الأمن والسلامة الانشائية ضد الحرائق والسرقة وغيرها، إلى جانب أعمال التشجير وتهيئة الحدائق حول المبنى، وهو ما اعتبرته شركة العاصمة الادارية مبالغ فيه نتيجة ارتفاع أسعار الدولار بعد قرار تعويم الجنيه.

يستنتج من ذلك أن استبعاد الشركة المذكورة كان نتيجة أحد أمرين أو على الأرجح كليهما وهما: الأول ارتفاع القيمة بعد ما أدى إليه قرار التعويم من قفزات فى سعر الدولار، والثانى هو النخوة الوطنية المطالبة بـ«تنفيذ المشروعات بأياد مصرية» وقوة لوبى شركات المقاولات عندنا. ويقود تحليل الموقف بالنسبة للأول للتنويه بأن تلك الشركة ما كانت لتغزو الأسواق الدولية بأسعار مبالغ فيها بل العكس، وأنها لابد وإن حسبت السعر جيدا وهى المشهورة بضغط التكلفة، وأن ما تطلبه مرتبط بتوفير مميزات متفوقة فى الانشاء والسلامة مثلما تدرج عليه فى مشروعاتها الأخرى. واذا كان تعويم الجنيه هو السبب فإن ما ينشر الآن عن تراجع سعر الدولار وتوقع المزيد من انخفاضه لهو خير ايضاح لأن قرار الاستبعاد كان متسرعا، وحتى إن لم يحدث فإننا يجب أن نتحمل تبعة الخطوات التى نتخذها للإصلاح الهيكلى لاقتصادنا.

أما الثانى، فإنه ينبغى تذكّر أن التأخر الذى أصاب مصر واقتصادها نتيجة جمود ثلاثين عاما باعد بيننا وبين من سبقونا فى التقدم العلمى والمهارات الفنية، وهو ما يؤكده تأخر مركز مصر الملموس فى قائمة القدرة التنافسية العالمية وترتيب الدول من حيث الانتاجية وحاجتنا الماسة لرفعهما. وعلينا أن نتواضع ونعترف بحاجتنا للاستفادة من شركاء أجانب يجلبون معهم الخبرة والتكنولوجيا لفترة حتى تتعلم منهم كوادرنا.

ويشار إلى أن وزير الاسكان سبق أن أوضح أن الاستعانة بشركات مقاولات عالمية لن يؤثر على نظيراتها المصرية، خاصة وأنها ستلتزم بقوانيننا القاضية بألا تتجاوز نسبة العمالة الخارجية المستعينة بها عن 15% وباقى النسبة من خلال العمالة وشركات المقاولات المصرية.
***

وتحضرنى فى هذا المقام واقعة كنت أحد أطرافها عام 1994، عندما كنت أتولى مديرا لإدارة التعاون الدولى للتنمية بوزارة الخارجية التابعة للوزير مباشرة، وكنت مسئولا عن مساعدات التنمية المقدمة لمصر من البرنامج الانمائى للأمم المتحدة (140 مليون دولار سنويا) وغيره من المنظمات المتخصصة التابعة كاليونسكو واليونيسيف واليونيدو وغيره، وتلك المنفذة بالتعاون بينه وبين البنك وصندوق النقد الدوليين أو الدول المانحة للمساعدات لمصر، والتى تنصب على النهوض بمستوى قطاعات أو صناعات معينة من خلال مشروعات تنمية محددة المدة. وكان من مهمتى أن أشترك مع مسئولى البرنامج فى اعداد المشروع فى البداية وتقييم نتائجه فى نصف المدة ثم فى نهايتها (سواء كانت سنتين أو ثلاث مثلا)، للتأكد من تحقيقه للهدف من انفاق المعونات وتوفير الخبرة الأجنبية. وكانت النتائج غالبا ما تكون غير مرضية بعد انتهاء المشروعات، فبعد انتهائها وانقطاع التمويل يعود الوضع تدريجيا لما كان عليه. وكانت الدول المانحة تشكو من نفس المشكلة، التى يبدو أنها كانت راجعة للبيروقراطية وضعف الحافز وهجر الموظفين المستفيدين من التدريب لهذه المواقع بحثا عن دخول أفضل.

وحدث أن جاء موعد تجديد مشروع لرفع مستوى أكبر شركات القطاع العام للأسمنت لدينا، من خلال توفير منظمة التنمية الصناعية التابعة للأمم المتحدة «يونيدو» للتمويل والخبراء والمعدات الناقصة، وكان واضحا بجلاء أن ما قدم إليها فى السنوات السابقة أحدث تطورا هائلا فى انتاجها وانتاجيتها وأرباحها بعد أن كانت تعانى من خسائر كبيرة. وشنت شركة خبرة مكونة من مسئولين سابقين حملة ضارية للاستغناء عن اليونيدو وحلولها محله واستفادتها بالتمويل، وعندما شعرت بميلى لمواصلة الاعتماد على المنظمة الدولية المبنى على الأرقام المحققة والصالح الوطنى، دفعت بكل الوساطات للتأثير عليّ كما اشتكت لوزير الخارجية الذى طالبنى بإعادة النظر خاصة بعد رفعها لدعوى أمام مجلس الدولة، وطلب الوزير تتبيع ادارتى ــ التى كانت الوحيدة المحافظة على استقلالها بعد تفتيت كل الادارات وتحويلها إلى شئون ومكاتب أصغر ــ إلى زميل مساعد وزير للشئون الاقتصادية وكأنه عقاب على موقفى. لكن الأخير تفهم الوضع ولم يمارس الاشراف بتاتا، كما جمّد الزملاء المختصون اعداد مشروع قرار للوزير بهذا التتبيع لتوقيعه، وظل الوضع كذلك إلى أن أخذ مجلس الدولة بعد أشهر قليلة بوجهة نظرى كاملة فى أهمية الاستفادة بالخبرة الأجنبية المتخصصة التى أفادت شركتنا وحكم باستمرار الاعتماد على منظمة اليونيدو. وظلت تلك الإدارة مستقلة حتى تحولت بعد سنوات معدودة إلى وزارة التعاون الدولى برئاسة الوزيرة فايزة أبوالنجا.

***
بالتالى علينا أن نكون كلنا مجلس الدولة الآن فى الابتعاد عن التعصب الوطنى، الذى يصل إلى حد التغاضى عن نقائص تعرقل نهضتنا والاعتقاد بأننا أكفأ من غيرنا، آخذين فى الحسبان أيضا أن قرار استبعاد شركة تعهدت باستثمار 15 مليارا وتدبير قرض بـ 3 مليارات دولار من شأنه إلقاء عبء أكبر على اقتصادنا، فى وقت تواجه فيه الدولة تحدّى توفير احتياجات المواطن المصرى فى وسط موجة تضخم حادة وصعوبات متزايدة فى المعيشة. ولماذا إذن عقدنا المؤتمر الاقتصادى الشهير وسعينا جاهدين للاستثمار الأجنبى ومازلنا؟

كما يجب التحسب لتأثير الاستبعاد على الشركة الثانية فى المشروع «سى.اف.ال.دى» المتعهدة بتوفير 20 مليار دولار ــ وهى التى لا يتوقع انخفاض سعرها عن زميلتها ــ بل وعلى الشركات الصينية الأخرى سواء العاملة فى مصر أو المراد اجتذابها، وكذا تأثيره السلبى على الزعامة والحكومة الصينية فى ظل اعتبارهما هذه المشاركة جزءا هاما من مبادرة «الحزام والطريق» التى تعتبرها بكين ركنا أساسيا فى سياستها الخارجية، خاصة وأن العاصمة الجديدة ينتظر أن تغذّى تنمية الحزام الاقتصادى لقناة السويس والحزام الاقتصادى للبحر الأحمر، مما يكرّس الأهمية المحورية للمشروع فى المبادرة الصينية.

ولاشك أن هذا الأمر يحتاج لتدخل رئيس الدولة شخصيا وفرضه لقرار بالعدول عن هذا الاستبعاد، بعد تحقق فريق مستقل يختاره من مدى معقولية السعر الذى تطالب به الشركة الصينية بالمقارنة بالمشروعات المثيلة فى الدول الأخرى، وتقدير جدوى الاعتماد على مثل هذه الشركة المتميزة ليس فقط فى التنفيذ المثالى لمشروع قومى عملاق وانما أيضا فى رفعها لمستوى أداء الكوادر والعمالة المصرية المتعاونة معها فى التنفيذ، أخذا فى الاعتبار كذلك أن سيادته دأب على حث الشركات الصينية فى لقاءاته معها فى بكين على طرق بابه اذا ما صادفتها مشاكل أو معوقات. هذا فضلا عما لمواصلة اكتساب دعم القيادة الصينية لنا من أهمية وفوائد كبرى على الصعيدين السياسى والاقتصادى.


قنصل مصر العام الأسبق فى هونج كونج

الاقتباس

تلك الشركة ما كانت لتغزو الأسواق الدولية بأسعار مبالغ فيها بل العكس، وأنها لابد وإن حسبت السعر جيدا وهى المشهورة بضغط التكلفة، وإن ما تطلبه مرتبط بتوفير مميزات متفوقة فى الإنشاء والسلامة.

 

فاروق حلمى خبير في الشئون الصينية مقيم في هونج كونج
التعليقات