جزيرة جوري - خالد الخميسي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جزيرة جوري

نشر فى : السبت 4 أبريل 2009 - 4:45 م | آخر تحديث : السبت 4 أبريل 2009 - 4:45 م

 تركت جزيرة «جورى» أثرا فى نفسى لا يمحى. جزيرة سنغالية صغيرة فى المحيط الأطلنطى يسكنها ألف نسمة، ولكنها طعنتنى ألف طعنة. خرج منها عبر ثلاثة قرون رجال مكبلون ليعمروا القارة الأمريكية الجديدة، ويسطروا مرحلة جديدة فى تاريخ العبودية الأسود فأدرجتها اليونسكو فى قائمة التراث العالمى للإنسانية. وهناك فى منزل العبيد شاهدت عن طريق المسئول عنه «جوزيف إندياى» كيف كان يتم سحق آدمية البشر قبل أن يمخروا عباب المحيط فى اتجاه الغرب السعيد.

الجزيرة محاطة بغابة من الأشجار، منازلها من دورين بعضها باللون الطوبى والآخر باللون الأصفر، ولكن كل نوافذها باللون الأزرق السماوى، وعلى يمين الداخل إلى الميناء من البحر قلعة دائرية ضخمة تحولت إلى متحف عن تاريخ السنغال من المراحل السحيقة وحتى الاستقلال. والمتحف لا يزوره إلا قلة من السياح، فجميع الزائرين يزورون بالأساس منزل العبيد.

كان ينتظرنى هناك شاب فى السبعين من العمر يدعى «كيبا»، عرفنى بنفسه قائلا: أنا من «الجريو». والجريو هم طائفة من السكان يمتهنون الفن والسحر، وهى هناك صناعة تنتقل من جيل إلى جيل. ويعد فن الحكى ولا شك من ضمن أعظم الفنون وكيبا كان عملاقا فى هذا المضمار. كان «كيبا» قصير القامة، رفيعا كمسمار، دقيق الملامح، ولكن عينيه كانتا تحتلان نصف وجهه. عينان تضخان إشعاعا يليق حقا بطائفة الجريو. حكى لى أن «الليبو» هم أول من سكن الجزيرة. وقد جاءوا من دلتا مصر. واسم الليبو هو اسم مصرى قديم، انتقلوا فى عصر مرنبتاح ناحية الغرب إلى ليبيا ومن هنا جاء اسم ليبيا. ومن هناك انتقل بعضهم إلى الساحل الغربى لأفريقيا، وأصبحوا جزءا من جماعة الولوف، التى تشكل غالبية السكان فى السنغال، ورغم أنهم يتحدثون لغة الولوف إلا أنهم ينطقونها بلهجة خاصة بهم، ويستخدمون كلمات من لغة غريبة يرجح أنها مصرية قديمة.

احتلها الهولنديون ثم الفرنسيون ثم الإنجليز ثم الفرنسيون مرة أخرى، ولكن البرتغاليون تركوا بصمة كبرى. حيث حكم الجزيرة لمدة تزيد على القرنين من الزمان نساء أطلق عليهن «السينيار»، والسينيار تعنى النساء باللغة البرتغالية. وهم بنات زيجات مشتركة بين البرتغاليين ونساء من جماعة «السيرير». وقد ازدهرت جزيرة جورى خلال هذه الحقبة، التى حكمت فيها النساء عن طريق تجارة الصمغ العربى والفول السودانى والجلود وعن طريق إقرار السلام. وقد انعكس هذا الازدهار على نمط حياة السينيار، فقد أقاموا حفلات وصل صداها إلى أوروبا. ولم يكن السينيار يتزوجن من بحارة ورجال عاديين، ولكن من رجال ذوى سطوة لخدمة سلطتهن فى الجزيرة ولعمل شبكة من علاقات النسب مع عائلات أوروبية عريقة. وقد شاهدت فى الجزيرة ثلاث فتيات فى جمال الياسمين يسرن بملابس السينيار، وهى عبارة عن فساتين طويلة مطرزة بالترتر، وعلى رأسهن قبعة مرتفعة جدا تشبه تماما قبعة الأراجوز لدينا، أبلغتهن إعجابى بجمالهن فقبلن أن أحصل على صورة لهن.

لا يوجد على الجزيرة سيارة أو موتوسيكل أو حتى دراجة، لم أسمع صوت محركات أو أبواق تنعق فى أذنى، ولذلك انتقل إليها الكثير من الفنانين للسكن هناك للعمل فى هدوء. كان هذا الجريو المرشد واحدا منهم، فقد كان مؤلفا ومخرجا وممثلا مسرحيا، بالإضافة إلى كونه عازفا على آلة وترية محلية تشبه الربابة. أخذنى فى البداية إلى منزل العبيد، الذى يقع فى مواجهة متحف المرأة، ومنزل العبيد وردى اللون من الخارج ومن الداخل، وعندما أبديت استغرابى من رومانسية اللون قال لى إن هذا المنزل لواحدة من السينيار، قد تكون أشهرهن على الإطلاق وأكثرهن رومانسية، وهى «آنا بيبان» عشيقة الشاعر الفرنسى الماركيز ستانيسلاس دوبوفليه حاكم السنغال وجزيرة جورى. وأن هذا المنزل لم يكن منزلا للعبيد ولكن منزلا للعشق والأشعار. والأرقام التى يبتدعها مسئول المنزل الخاصة بالعشرة ملايين أفريقى، الذين خرجوا عبيدا من جزيرة جورى هى محض خيالات للاستهلاك السياحى، وإنما خرجت المراكب بملايين العبيد من مدن أخرى فى السنغال، أما جورى فقد خرج منها فقط مئات الألوف من العبيد. ولكن هذا الديكور السياحى لا يغير من الواقع التاريخى المرير للعبودية شيئا. «ويكفى النظر للأولمبياد لنرى أن من يحصد الميداليات للأمريكتين هم أساسا الأفارقة». سرنا فى شوارع جميلة ونظيفة تحفها الأشجار وبائعات الحلى الأفريقية، ووقفنا أمام تمثال يحتضن فيه رجل امرأة. ومررنا بمبان جميلة مقامة على درج، تطل مباشرة على البحر. عرفت أنها مدرسة داخلية للبنات الحاصلات على المراكز الأولى، يجئن من كل أنحاء السنغال للدراسة هنا، ففى هذه المدرسة لديهن فرصة للدراسة الجامعية فى فرنسا!.

ما الذى خبطنى إذن فى نافوخى وأنا محاط بكل هذا الجمال؟ ما الذى علم فى وجدانى رغم الرائحة السياحية التى تزكم الأنوف؟ الإجابة قاسية على قلمى. فهناك التقيت شابا مصريا: إبراهيم، واكتشفت أنه قادم إلى السنغال فى محاولة للتسلل من هناك إلى إسبانيا عبر أحد مراكب الصيد. نفس المراكب الذى حدثنى عنها «كيبا» لنقل العبيد إلى القارة الجديدة. ومع إبراهيم تعرفت على جماعة من الشباب من جنسيات مختلفة يستعدون للرحيل، يمخرون الأطلنطى على أمل أن يصبحوا عبيدا للسيد الأبيض.

خالد الخميسي  كاتب مصري