مصر.. وما تفعل بنفسها - نبيل عمرو - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 12:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر.. وما تفعل بنفسها

نشر فى : الإثنين 14 نوفمبر 2011 - 10:05 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 نوفمبر 2011 - 10:05 ص

الإيقاع الرومانسى للربيع العربى آخذ بالانحسار وذلك أمر بديهى ومنطقى بعد زوال تأثير الاحتفاء بالنجاح الصاعق فى الإطاحة برموز القديم ثم مواجهة الواقع على الأرض بحقائقه الملموسة ومعظمها فى فترة الانتقال المفاجئ يقع فى دائرة السلب.

 

•••

 

وفى هذه الفترة التى يتسم الصراع الداخلى فيها بكثرة التقاطعات وغموض الخيارات ظهرت خلاصات اختزل فيها كتاب الأعمدة والتقارير ما يفرزه المشهد من وقائع ومؤشرات.. من هذه الخلاصات مثلا:

 

أن تقدم الإسلام السياسى على ما عداه من قوى جاء بفعل دقة التنظيم وصرامة الانضباط قياسا بانفلات القوى الأخرى وانهيارات بنى النظم الحاكمة المدنية والأمنية.

 

وأفرزت هذه الخلاصة منطقا مفاده: أن الإسلام السياسى الذى فتح له الربيع العربى أبوابا واسعة كانت موصدة بإحكام فيما مضى.. سوف يجد نفسه مضطرا لاستيراد صيغة وآليات حكم، إذا ما حملته التطورات الجديدة إلى سدة المسئولية مستحوذا أو مشاركا من موقع نافذ.

 

•••

 

وهنا نشأ قول سطحى فى صيغة سؤال.. ترى أى تجربة سوف يذهب إليها الإسلام السياسى.. الإيرانية أم التركية؟

وفى هذا السياق يبدو إظهار الميل إلى التجربة التركية أكثر وضوحا وحماسة نظرا لدوافع طائفية حيث الثورات التى نجحت لا يرى الإسلام السياسى فيها مصلحة له بالتماهى مع الصيغة والمحتوى وحتى الشكل الشيعى فاقع الظهور والتأثير فى إيران، فضلا عن عامل سياسى آخر وهو أن الغلاف الدولى للثورات فى البلدان الثلاث مصر وتونس وليبيا جاهز للتعاون مع إسلام الربيع العربى بقدر ما يبعد نفسه عن الصيغة الإيرانية، ويظهر استعدادا للتماهى ــ قدر الامكان ــ مع التجربة التركية كمثال راهن، تلك التجربة التى آلفت بين الاطلسية والعلمانية والإسلامية فى صيغة تبدو نموذجية ومناسبة لكل الأطراف الدولية ذات الصلة بالأوضاع الإقليمية.

 

غير أن الأمر وإن بدا موضوعيا لحظة اختيار أى التجارب نفضل، إلا أنه يختلف كثيرا عندما يواجه الإسلام السياسى تحديات البيئات التى يعيش فيها ومساحة التأثير والتأثر بين القيادة المفترضة والمجتمع الذى سيقاد.

 

إن بالإمكان تفضيل تجربة على اخرى نظريا، أما استنساخها فهذا أمر يبدو مستحيلا النجاح فيه، وكلمة السر فى هذا الأمر هى خصوصية المجتمعات ومدى استعدادها لتقبل الاستنساخ لتجارب أخرى، ما كان لها أن تتبلور وتستقر إلا بعد حقبة طويلة من الكفاح الطليعى والقاعدى، وبعد موائمات معقدة بين المعتقدات ومؤثرات الواقع. ومفيد أن نذكر من التجربة التركية مثلا.. حقبة النضال القاسى والمعقد الذى خاضه الإسلام السياسى من بين مسننات العلمانية العسكرية التركية الحادة  والصارمة والذى أوصل بادئ الأمر أربكان إلى سدة الحكم ليمارس الرجل وعيه الأصولى ــ إلى حد ما ــ ضمن بنى علمانية حديثة فإذا به يزاح عن المشهد بضربة قاضية لعلها كانت الأكثر فائدة لما حدث فيما بعد، وهو عودة الإسلام ولكن البراجماتى المعتدل إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، من خلال دراسة ذكية لعوامل الإخفاق الأول، وقدرة قيادية مميزة على النفاذ من بين الهوامش التى كانت تبدو ضيقة لتوصل الحزب الإسلامى أخيرا إلى الحكم عبر أغلبية برلمانية حاسمة.

 

وبقدر تميز الواقع التركى على مستوى الدولة والمجتمع والثقافات والارتباطات ومستوى التقدم الاقتصادى بقدر ما تستطيع رؤية إغراء الاقتداء بهذه التجربة فى بلدان الربيع العربى.

 

•••

 

إن الكيان الأقرب بالمواصفات إلى تركيا هو الكيان المصرى حيث الكثير من المشترك تاريخيا وثقافيا وحتى وجدانيا وسياسيا، إلا أن المشترك وحده لا يكفى لإنجاح تجربة قيادة وحكم وهنا يجدر النظر إلى المختلف وهو كثير وفعال ولا أرغب فى القول حاسم أيضا

 

لقد ورث الإسلاميون فى تركيا بلدا جاهزا بقوانين ومؤسسات راسخة يغذيها اقتصاد يبدو بالغ القوة بالقياس مع الاقتصاد المصرى فاختار القادة المستنيرون للاتجاه الإسلامى التركى العمل بهدوء وذكاء وعصرية مفتوحة، كى يضعوا بصماتهم على النظام من خلال النظام ذاته ويتدرجون فى تطوير النفوذ حد بلوغ قدرة لم تكن متخيلة على تفكيك الجدار العسكرى الذى طالما استندت إليه العلمانية الأتاتوركية بكل قواها الداخلية وتحالفاتها الخارجية.

 

ثم إن تركيا الأطلسية الساعية بدأب رغم انحسار الفرص لدخول النادى الاوروبى فى ظل الإسلام السياسى تواجه تحديات تختلف نوعيا عن التحديات التى تواجهها مصر على الصعيد السياسى والاستراتيجى.

 

وإذا كانت تركيا منشغلة إلى جانب شئونها الداخلية بامتدادات سياساتها الإقليمية والدولية حد إعادة اقتراح الإمبراطورية العثمانية مع ما يلزم من تعديلات إلا أن تحديات مصر تبدو أكثر وأكبر وأخطر، فمصر لم تكن يوما حتى لو رغب كثيرون فيها بلد المصريين فقط ولم تكن تحدياتها الأساسية بفعل تنافر عرقى أو مذهبى أو قومى فى مجتمعها المحسوم على نحو راسخ، وانما كانت التحديات وماتزال فى جزءا أساسيا منها تتجسد برغبة قوى نافذة فى المنطقة والعالم بأن لا يقوى هذا البلد الكبير الذى اشتهر بعبقرية المكان وبعمق التراث الحضارى ومؤهل الإشعاع الفكرى بالاتجاهين العربى والافريقى والمخزون البشرى الذى يكفى ويفيض، وفى هذا الوضع تبلورت قوى مناوئة ستحتاج مصر إلى وقت طويل كى تتخلص من تأثيرها القوى وهى احاطة البلد بمصادر قلق مستمر كى لا تنتبه كثيرا وبصورة مركزة إلى وضعها ولتنمية مجتمعها ودولتها ودورها.. لم تمر حقبة زمنية إلا وظهر لمصر منافسون ولو بالادعاء والمشاغبة فى محيطها العربى وامتداداته الدولية المتشعبة ولكن المعادية، بما لذلك من تأثيرات مباشرة على الوضع الداخلى فى مصر وعلى فاعلية القيادة والريادة للعالم العربى، وقضاياه ومصالحه.

 

وفى «الحقبة الإسرائيلية» التى تناهز «إعدادا وبلورة» ثلاثة ارباع القرن لم تسترح مصر يوما من القلق حتى معاهدات السلام مع إسرائيل وكما تبين بعد ثلث قرن من إبرامها وخدمتها ووضعها كأساس لسياسة الدولة المصرية لم تلغ القلق العميق والشعور بان الخطر وإن لم يظهر بصورة حرب فإنه كامن على نحو مرهق.. ليس الامر متصلا بهدوء الجبهات واستقرار الحدود ورتابة الحالة العسكرية بقدر ما هو متصل بحقائق السياسة والقدر الاستراتيجى.

 

لقد حاولت مصر فى حقبة مبارك أن تتعامل قدر الإمكان مع المسألة الإسرائيلية كما لو أنها طرف ثالث بين طرفين أساسيين مع ميل عاطفى إلى جانب الطرف العربى وعنوانه الاقرب إلى مصر أى الفلسطينى، فكانت على مدى ثلث القرن الماضى وسيطا مخففا لالام الفلسطينيين مشجعا إياهم على المضى قدما على طريق السلام الحذر والمعقد والملئ بالمفاجآت، إلا أن هذا الدور وان كان هو المتاح موضوعيا بفعل رؤية النظام المصرى لوضع البلد والمحيط وحساب القدرات والارتباطات إلا أن حقائق السياسة والاستراتيجية فرضت أخيرا قلقا متزايدا فى مصر.. المجتمع والقوى السياسية والدولة... مثلا، كانت محاولات ترويض الظاهرة الغزية ووضعها فى قفصها الفلسطينى المحدود قد كلفت مصر جهدا مضنيا دون الوصول إلى نتائج اساسية فظل الوضع فى غزة مصدر قلق استراتيجى لمصر.. ومن مؤشراته تواصل الصراع الفلسطينى الفلسطينى والفلسطينى الإسرائيلى جراء حرب الانقسام وحرب الرصاص المسكوب، ومن لا يتذكر مخاوفنا جميعا من ولادة مخيمات جديدة فى غرة القرن الحادى والعشرين على أرض مصر.

 

•••

 

عودة إلى الموضوع الذى هو صلب هذه المقالة أى نموذج خيار ثورات مصر وشقيقاتها أعضاء نادى «الربيع العربى» هل هو الإيرانى أم التركى لأخلص إلى ما أراه نتيجة منطقية وموضوعية وهى أن الواقع المصرى يستبعد تماما استنساخ التجارب ونقلها وحتى الاقتداء بها، فكل نظام حكم يمكن أن يستقر ينبغى أن يكون نتاج بيئته بمكنوناتها ومؤثراتها وخصوصياتها وفى مصر من الخصوصيات والمميزات ما يحتم على الإسلامى أو العلمانى أن يغوص فى اعماق الواقع المصرى ليستخرج منه الصيغة والاداة ومقومات النجاح، وحين تتوفر قوة تؤمن بهذا وقيادة قادرة على التجسيد والاستمرار ساعتها لن نكون بحاجة إلى الاستنساخ فمن قلب مصر يشخص المرض ومن واقع المجتمع المصرى يتوفر العلاج أما العالم القريب والبعيد بما فى ذلك من يخشى قوة مصر فليس امامه من خيارات إلا التعامل مع الواقع بحقائقه، وفى هذا الزمان فإن العالم المتغير وحين يرى فى مصر نظاما حديثا عفيا أو فى سبيله إلى ذلك لا بد وأن يجد مصلحة فى التعاطى مع هذا النظام، أما معادلة إحاطة مصر بمصادر مستمرة للقلق فهذا أمر لن ينتهى يوما إلا أن كلمة السر فى التغلب عليه تظل مصر وما تفعل بنفسها.

التعليقات