«الانقلاب» القانونى الذى يقوده الكونجرس الأمريكى - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الانقلاب» القانونى الذى يقوده الكونجرس الأمريكى

نشر فى : السبت 17 سبتمبر 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 17 سبتمبر 2016 - 9:10 م
بموافقة الكونجرس الأمريكى على مشروع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» JASTA منذ أيام يبدو أننا مقبلون على متابعة أهم انقلاب قانونى يقوده مجلس تشريعى وطنى على المبادئ القانونية المتعارف عليها فى العالم كله. يكاد الكونجرس الأمريكى فى واشنطن يعيدنا إلى عصر روما القديمة التى قدَّمت للعالم فيما مضى قانون الشعوب. لكن قانون روما القديمة قدّم للعالم آنذاك أهم المبادئ القانونية التى ما زالت حتى يومنا هذا مصدرا تاريخيا للكثير من النظم التشريعية. أما مشروع قانون JASTA الأمريكى فهو يمثل خروجا على الحصانات السيادية للدول، ومعايير الاختصاص القضائى، وشخصية المسئولية القانونية، ويكاد يجعل من الكونجرس الأمريكى مجلسا تشريعيا للعالم وليس للولايات المتحدة الأمريكية فقط.

يجيز مشروع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» لضحايا الأعمال الإرهابية التى تقع فى الولايات المتحدة الأمريكية (والمقصود تحديدا تفجيرات ١١ سبتمبر الإرهابية) أو لعائلاتهم مقاضاة حكومات أجنبية (والمقصود تحديدا المملكة العربية السعودية) للحصول على تعويضات مالية عن الأضرار الناشئة عن هذه الأعمال الإرهابية. من الناحية الإجرائية ما زلنا حتى كتابة هذه السطور أمام مشروع قانون وافق عليه الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب لكن لم تكتمل بعد شروط نفاذه كتشريع صادر واجب التطبيق. ما زال يحق للرئيس الأمريكى أن يعترض على هذا القانون مستخدما سلطته الرئاسية فى النقض (الفيتو). وهذا ما أعلنه البيت الأبيض بالفعل منذ فترة. وفى هذه الحالة فإنه يتوجب إعادة عرض مشروع القانون على الكونجرس مرة أخرى للموافقة عليه بأغلبية ثلثى أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب كل على حدة. فإذا تحققت هذه الموافقة المشروطة يصبح التشريع نافذا برغم اعتراض الرئيس الأمريكى.

وفى انتظار معرفة المصير النهائى لهذا المشروع بقانون فإنه بذاته يثير العديد من التساؤلات القانونية والانتقادات القانونية. لندع إلى مقال لاحق الحديث عن التساؤلات المتعلقة بالخلفية السياسية التى ينطلق منها مشروع JASTA. أما الانتقادات القانونية، موضوع هذا المقال، فهى تدور حول سؤال مركزى، خطير ومقلق، لا يمكن القفز عليه. السؤال هو هل يُنصّب الكونجرس الأمريكى من نفسه مجلسا تشريعيا دوليا أو كونيا يصدر تشريعات ملزمة لدول العالم ويمنح المحكمة العليا الأمريكية ولاية تطبيق هذه التشريعات فى مواجهة دول أجنبية ذات سيادة؟

وجه الخطورة فى تشريع JASTA لا ينحصر فقط فى مخالفته لمؤدى الحصانات الدبلوماسية المعترف بها للدول ذات السيادة وفقا للقانون الأمريكى نفسه الذى لا يجيز مقاضاة حكومة دولة أجنبية أمام المحاكم الأمريكية. لكن وجه الخطورة يتمثل أيضا فى الأساس القانونى المتهافت الذى يبنى عليه تشريع JASTA المسئولية القانونية لحكومة أجنبية أمام القضاء الأمريكى. فهذا التشريع يجيز مساءلة الأفراد، والكيانات، والدول التى تُسهم عن عمد أو تقصير فى توفير الدعم أو الموارد المادية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأشخاص أو منظمات بما ينطوى على خطر ارتكاب أعمال إرهابية تهدد أمن مواطنى الولايات المتحدة الأمريكية، أو أمنها الوطنى، أو سياستها الخارجية أو اقتصادها. وبصرف النظر عن الصياغة الفضفاضة التى يتسم بها هذا المشروع بقانون وأنه يسوى بين العمد والتقصير، وبين الدعم المباشر وغير المباشر (وفقا لأى معيار أو دليل يمكن استخلاص الدعم غير المباشر مثلا؟) فإن السؤال الجوهرى هو على أى أساس قانونى يمكن مساءلة (دولة) عن أفعال إرهابية ارتكبها ( أفراد ) يحملون جنسية هذه الدولة؟ نفهم مثلا مساءلة الشخص الإرهابى نفسه عن أفعاله الإرهابية، أو مساءلة منظمة أو جماعة إرهابية عن أفعال ارتكبها أعضاء تنظيميون تابعون لها ويعملون باسمها أو لحسابها. مثل هذه الفروض مفهومة ومبررة وفقا للمبادئ القانونية التى تجعل الشخص مسئولا عن أفعاله، أو تجعل المتبوع مسئولا عن أفعال تابعيه، على الأقل فيما يتعلق بالتزامه بجبر الأضرار الناشئة عن فعل المتبوع.

ما يصعب فهمه أو تبريره هو اعتبار (الدولة) نفسها مسئولة قانونا عن أفعال غير مشروعة لمجرد أن الذى ارتكب هذه الأفعال يحمل جنسيتها. لا يشير تشريع JASTA إلى المملكة العربية السعودية، ولا إلى أى دولة عربية أو غير عربية أخرى. لكن العالم كله يدرك أن السعودية هى المقصودة تحديدا بهذا القانون. ونحن كعرب يجب أن ندرك أيضا أن دولنا هى المرشح الأوفر حظا لتطبيق أحكام هذا القانون عليها، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، هى مسألة وقت لا أكثر.

***
وجه الانتقاد ومصدر الريبة فى التشريع الأمريكى أن السعودية (المقصودة أساسا بهذا التشريع) ليست مدرجة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب لا وفقا للقانون الأمريكى، ولا وفقا لأى قرار دولى أممى. بل إنه حتى فى فرض اعتبار دولة ما راعية للإرهاب مسئولة عن تعويض الأضرار الناشئة عن أفعال إرهابية يتعين إقامة الدليل على شكل ما من أشكال التبعية القانونية أو التنظيمية أو الاستخباراتية للإرهابيين إلى هذه الدولة وفقا لنظرية المتبوع عن أفعال التابع. مثال ذلك أن ينتمى هؤلاء الإرهابيون إلى أحد الأجهزة الأمنية أو الاستخباراتية للدولة راعية الإرهاب، أو أن يقوموا بذلك بأمر أو تعليمات منها، أو بتنسيق أو تقديم دعم محدد ما. هذا ما لا يبدو متوافرا فى حالة الدولة السعودية التى تعرضت على مدى سنوات ممتدة إلى إرهاب تنظيم القاعدة الذى ينتمى إليه منفذو تفجيرات ١١ سبتمبر الشنعاء.

الملاحظ أنه لم يخل الأمر فى السنوات الأخيرة من ظهور تلميحات وإشارات عن دور ما للسعودية فى تمويل أنشطة إرهابية لتنظيم القاعدة، لكن هذه مسألة يجب تدقيقها وفض الخلط فيها بين الجوانب القانونية والسياسية والاستخباراتية بل والإعلامية أيضا، فكل هذه الجوانب تختلط بشدة، وعلى خلفيتها تدور حرب ما صامتة وغامضة فى الشرق الأوسط. وما يُقال عن وثيقة الـ٢٨ صفحة السرية (وهى لم تعد منذ أيام سرية) التى قدمتها الاستخبارات الأمريكية للكونجرس فهى لا تبدو دليلا على إدانة السعودية بأى معيار من المعايير القانونية. فقد اعترض جون برينان نفسه مدير الـCIA على نشر هذه الوثيقة لعدم دقة ما تضمنته من معلومات. ثم إن لدى العالم كله، والعرب خصوصا، ذكريات مؤلمة عن الوثائق الكاذبة وغير الدقيقة التى اعتمدت عليها قوات التحالف لتبرير غزوها للعراق فى العام ٢٠٠٣، والتى كانت سببا لأن يقدم رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير اعتذارا عنها منذ شهور قليلة.

***

مظهر التناقض وربما الدهشة أن مسايرة منطق مشروع القانون الأمريكى JASTA يعنى إمكان مقاضاة حكومة أى دولة فى العالم بسبب الأضرار الناشئة عن الجرائم أو الأفعال غير المشروعة التى يرتكبها الأفراد الحاملون لجنسيتها بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها!! هذا التشريع يعنى إذن فيما لو قُدِّر له النفاذ القانونى أن يُطبق على دول مثل أمريكا وبريطانيا وغيرهما عن جرائم الحرب وإرهاب الدولة فى العراق وأفغانستان واليمن. وهذا ما ألمح إليه الرئيس الأمريكى باراك أوباما نفسه من أن إصدار مثل هذا القانون ليس فى مصلحة الولايات المتحدة. صحيحٌ أن الكونجرس الأمريكى بدا حاذقا فى صياغته لمشروع القانون حين استبعد من نطاق تطبيقه الأضرار الناشئة عن أعمال الحرب Acts of war، لكن هذا الحذق القانونى لا يمنع من إمكان تطبيق القانون على جرائم الحرب Crimes of war التى تدرك أمريكا بنفسها أنها ليست بمنأى عن أن تطالها هذه الجرائم وإلا ما امتنعت حتى اللحظة عن الانضمام إلى نظام روما الأساسى المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية.

فى نفس السياق بدا ملحوظا ما أثاره مشروع القانون الأمريكى من تساؤلات ومخاوف الأوساط القانونية الدولية حول إمكان تطبيقه على الحكومة الألمانية بشأن ما عُرف بخلية هامبورج التى كان ينتمى إليها الإرهابى محمد عطا أحد المتورطين المتهمين فى تفجيرات ١١ سبتمبر. فى هذا السياق أيضا يبدو القياس غير جائز على سابقة مسئولية ليبيا عن تعويض ضحايا تفجير طائرة شركة بان أمريكان فيما يُعرف بقضية لوكيربى. ففى هذه القضية ثبت قيام علاقة التبعية بين منفذى تفجير الطائرة وبين دولة القذافى آنذاك حيث تبين أن أحد المتورطين«عبدالباسط المقراحى» كان عميلا للاستخبارات الليبية.

***

خلاصة الأمر أن هناك حقيقتين، قانونية وسياسية، يكشف عنهما مشروع القانون الأمريكى JASTA. الحقيقة الأولى أن هذا المشروع يؤذن بانقلاب قانونى عالمى فيما لو قدر له النفاذ وحصل على أغلبية ثلثى أعضاء الكونجرس عند إعادة التصويت عليه. إذا حدث ذلك فسنشهد نوعا جديدا وطريفا من الحروب هى حروب التعويضات القانونية الدولية ستكون الغلبة فيها للدولة الأذكى والأقوى التى توجد لديها أرصدة مالية وممتلكات مغرية لدول يسهل الإيقاع بها. الحقيقة الثانية والمرتبطة بما سبقها أن الكونجرس الأمريكى يحاول إلصاق مسئولية التفجيرات الإرهابية بالدول التى يحمل الإرهابيون جنسيتها إذا كانت دولا ثرية تمتلك فوائض مالية كبيرة داخل أمريكا بحيث يمكن استيفاء التعويضات التى قد يُحكَم بها من هذه الأموال. ربما لم تكن أمريكا لتنشغل كثيرا بإصدار مثل هذا التشريع لو أن إرهابيى ١١ سبتمبر كانوا ينتمون إلى دول فقيرة!

فى نهاية المطاف من حق أمريكا ألا تنسى آلام وهموم ضحاياها الأبرياء وعائلاتهم، لكن هل من حق الكونجرس أن ينصاع إلى ضغوط وجماعات المصالح وهى تسعى للابتزاز ولو كان الثمن القيام بانقلاب قانونى عالمى ربما ترتد نتائجه يوما إلى أمريكا نفسها؟
سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات