دفاعًا عن الجهاز المركزى للمحاسبات - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دفاعًا عن الجهاز المركزى للمحاسبات

نشر فى : الأحد 10 أبريل 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 10 أبريل 2016 - 10:00 م
ستظل إقالة المستشار هشام جنينة من رئاسته للجهاز المركزى للمحاسبات مصدرا لتساؤلات شتى. هنا محاولةٌ لتجاوز (الشخصى) فى مسألة الإقالة رغم ما ينطوى عليه هذا البعد من أهمية سواء لكون الرجل أحد رموز ما عُرف بتيار استقلال القضاء أو لما يقال عن انتماءاته السياسية السابقة. لقد طُوىَ (الشخصى) وأصبح الآن فى عداد الماضى. أما (الموضوعى) فهو يتعلق بمستقبل أهم جهاز رقابى لمكافحة الفساد فى مصر، وعليه يجب ويجدر أن ينصب النقاش. فى الموضوع تبرز ثلاثة أبعاد يتعين استجلاؤها: بعد سياسى لا يمكن إغفاله، وبعد قانونى يجب الانتباه إليه، وبعد مهنى ينبغى الخوف عليه بشأن الدور المستقبلى للجهاز المركزى للمحاسبات.

البعد السياسى

أول ما يتبادر إلى الذهن هو الأسباب الحقيقية لهذه الإقالة المفاجئة قبل خمسة أشهر تقريبا من انتهاء مدة ولاية المستشار جنينة. (الظاهر) من هذه الأسباب هو التصريح الأشهر والأخطر للمستشار جنينة فى نهاية ديسمبر الماضى حول تقدير حجم الفساد فى مصر بنحو ٦٠٠ مليار جنيه. قيل فى البداية ورُوّج سريعا لأن هذا الرقم الهائل يخص العام ٢٠١٥ فقط وكأن القصد هو رغبة جهاز المحاسبات فى إحراج السلطة التنفيذية، ثم سرعان ما صدر عن الجهاز تصحيح بأن رقم الـ٦٠٠ مليار جنيه يمثل كلفة الفساد على مدى أربع سنوات وليس سنة واحدة. لم نستطع التعرف على وجه الحقيقة فلا يوجد بين أيدينا التقرير الصادر عن جهاز المحاسبات ولا التقرير الذى أعدته اللجنة المكلفة بالرد على تصريح المستشار جنينة فيما خلا بعض التسريبات الإعلامية. ما زال الصراخ الإعلامى الدائر فى مصر يشوّش علينا (عن قصد أو بدون قصد) فى تبيان وجه الحقيقة. وهذا وجه آخر للأزمة فى مصر.

فى مسألة التصريح إياه فرضان أولهما أن يكون تقدير المستشار جنينة لحجم الفساد فى مصر بستمائة مليار جنيه شاملا أربع سنوات وليس سنة واحدة ويكون التحريف بالتالى قد وقع من غيره أو تم تجاهل تصحيحه اللاحق. الفرض الثانى أن يكون المستشار جنينة نفسه قد أخطأ فى تقدير حجم الفساد إما بإسناده إلى عام واحد فقط أو اعتمد على معايير غير دقيقة. هنا تحديدا وبصحة هذا الفرض الثانى هل يعتبر الخطأ المنسوب للرجل خطأ محاسبيا أو فنيا مثل الأخطاء المهنية التى تقع من الجميع أم هذا الخطأ بالمبالغة فى تقدير تكلفة الفساد هو خطأ سياسى؟ وهنا يحق التساؤل مرة اخرى هل يرقى هذا الخطأ السياسى بافتراضه كذلك إلى حد اعتباره سببا موجبا لإعفاء رئيس جهاز المحاسبات من منصبه؟ سنعود لاحقا لبحث هذا التساؤل مع ملاحظة أن التقارير تعدها لجان فنية من خبراء ومتخصصين وليس رئيس الجهاز بنفسه.

الواقع أنه وبقدر ما تزداد السياسة حضورا فى مسألة إعفاء رئيس المحاسبات من منصبه بقدر ما يزداد الدستور والقانون غيابا. هذه هواجس مشروعة توحى بها المشاهد السابقة على قرار الإقالة واللاحقة عليه. فقبل ساعات من صدور قرار الإقالة قيل إن المستشار جنينة كان قدم إلى مجلس النواب تقريرا عن الفساد! وبعد ساعات على الإقالة أعلن محاميه أنه قد مُنع من زيارته فى بيته على يد بعض رجال الأمن، أسهمت هذه الواقعة فى البداية فى انتشار شائعة وضعه تحت الإقامة الجبرية ثم سرعان ما تم نفيها حتى أُعلن أخيرا عن تواصل محاميه معه. أما عن المشهد الإعلامى المصاحب لعملية الإقالة فهو يُغنى عن أى تعليق، فقد بلغ الهجوم الإعلامى على الرجل حد الاستباحة التى لم تستثن انتماءه الوطنى، أو أسرته، أو كرامته الشخصية. بالطبع ليس هشام جنينة ولا غيره معصوما من الخطأ أو محصّنا من النقد، لكن ما تعرّض له الرجل بدا أبعد من مجرد الانتقاد الوظيفى ووصل إلى حد الاستباحة الشخصية، والفارق بينهما كبير.

كان لافتا ومحيّرا أيضا أن يهلل الإعلام لإقالة المستشار هشام جنينة مع أنه كان يُفترض بحكم أى مقاييس مهنية أن يقوم الإعلام بتمحيص المسألة وإدارة نقاش موضوعى حولها ليس بالضرورة حول شخص هشام جنينة بل للدفاع عن دور الجهاز المركزى للمحاسبات كمؤسسة وطنية وجدت قبل المستشار جنينة وستبقى بعده. فى الواقع عزّز التهليل الإعلامى لرحيل الرجل الهواجس المتعلقة بموقفه من قضية الرواتب والأجور فى بعض مؤسسات الدولة وقضية التهرب الضريبى. لهذا ساد اعتقاد ما بانتصار تحالف البيروقراطية مع المال على سلطة الرقابة على المال العام. وهذا ما سيجعل الأنظار كلها متجهة إلى المستشار هشام بدوى لنعرف هل كانت مشكلة الدولة مع شخص المستشار جنينة أم مع دور الجهاز العتيد الذى كان يترأسه.

البعد القانوني

فى البعد القانونى لإقالة رئيس جهاز المحاسبات من منصبه ثلاث قضايا لعلّ بحثها يسهم فى استيضاح دور الأجهزة الرقابية فى مكافحة الفساد وتصويب العلاقة الملتبسة بينها وبين السلطة التنفيذية.

القضية الأولى هى ما إذا كان يحق لرئيس الجهاز المركزى للمحاسبات الإعلان عن تقارير أو بيانات تتعلق بالفساد المنوط به مكافحته بحكم الدستور أم أن هذا السلوك يشكل إفشاء لأسرار الوظيفة أو مساسا بالأمن القومى أو المصالح العليا للبلاد؟ هذا السؤال المحورى يستدعى تمحيص وجهتى نظر. وجهة نظر أولى ترى أن مثل هذا الإعلان ينطوى على إفشاء لأسرار الوظيفة كما أن التصريح بحجم الفساد يسىء إلى مناخ الاستثمار فى مصر ويضر بسمعة الدولة. أما وجهة النظر الثانية فلا ترى فيما قام به المستشار جنينة إفشاء لسر وظيفى أو إضرارا بالاستثمار.
بمنظور قانونى من الصعب اعتبار ما أعلنه الرئيس السابق لجهاز المحاسبات بشأن حجم الفساد فى مصر من قبيل (الوقائع أو الأسرار) التى يُحظر عليه إفشاؤها، ليس فقط لأنه ملزم بحكم الدستور بنشر تقاريره على الرأى العام (م ٢١٧ من الدستور) وليس فقط إعمالا لمبدأ الشفافية (م٢١٨ من الدستور) ولكن أيضا وعلى وجه الخصوص لأن الوقائع أو الأسرار المحظور إفشاؤها يجب أن تتمثل فى أفعال فساد محدّدة تنسب لأشخاص معينين وهو ما لم يصرح به رئيس المحاسبات السابق بل ضمنها تقريره إلى الجهات المختصة.

القضية الثانية تتعلق بمدى جواز الطعن أمام القضاء الإدارى فى القرار الصادر بإقالة رئيس المحاسبات السابق. إذا اعتبرنا قرار الإقالة قرارا إداريا فهو خاضع لرقابة مجلس الدولة أما إذا رأينا فيه قرارا سياسيا (مثل القرار الصادر بتعيين رئيس مجلس الوزراء أو إقالته) فهو يخرج عن نطاق الرقابة القضائية وفقا لنظرية أعمال السيادة، المأخوذة تاريخيا عن مجلس الدولة الفرنسى. حسم هذه القضية يتوقف على معرفة ما إذا كان نص المادة ٧ من قانون إنشاء مجلس الدولة الذى يستبعد من نطاق الرقابة القضائية القرارات التى تصدرها السلطة التنفيذية بوصفها سلطة حكم لا سلطة إدارة يتوافق مع المبدأ الدستورى الذى يحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء (م ٩٧ من الدستور)؟ الأصل المستقر قانونيا هى أن قرارات السلطة التنفيذية كسلطة حكم لا كسلطة إدارة تخرج بالفعل عن رقابة القضاء الإدارى وذلك وفقا لنظرية «أعمال السيادة». لكن الإشكالية تكمن هنا فى تحديد نطاق القرارات المشمولة بنظرية أعمال السيادة. الأصل أنها تنصرف إلى قرارات إعلان الحرب وما يتعلق بالعلاقات السياسية والدبلوماسية مع الدول الأجنبية والقرارات الصادرة عن البرلمان كسلطة تشريعية. هكذا يبدو أن فكرة أعمال السيادة قد تضاءل تطبيقها فى فرنسا إلى حد بعيد، مع ملاحظة أن مجلس الدولة الفرنسى يعمل فى ظل منظومة من المبادئ القانونية والأعراف القضائية والثقافة السياسية التى تبقى نتاج بيئته الخاصة به. فى كل الأحوال يصعب بحث مسألة اخضاع قرار إقالة رئيس المحاسبات بمعزل عن سؤال آخر أكثر دقة وإثارة سياسية وهو الخاص بالقضية التالية.

القضية الثالثة ــ مدى دستورية القانون الذى استنادا إليه صدر القرار بإقالة المستشار جنينة. منذ صدر القانون ٨٩ لسنة ٢٠١٥ والذى يجيز إعفاء رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم والتساؤلات تتوالى حول مدى توافقه مع النص الدستورى الذى يُكرّس استقلال الجهاز المركزى للمحاسبات ويحظر إعفاء رئيسه أو أعضائه من مناصبهم (م ٢١٦ من الدستور). كثيرون رأوْا فى هذا القانون ومنذ لحظة صدوره مخالفة صريحة للدستور مما يُنذر باحتمال إلغائه أمام المحكمة الدستورية العليا. وقد يرى آخرون أن القانون المذكور لا ينطوى على مخالفة دستورية لأن الحظر الدستورى لإعفاء رئيس المحاسبات أو غيره من رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية الأخرى ليس حظرا مطلقا. فالمادة ٢١٦ من الدستور تقرر «.. ولا يُعفَى أى منهم من منصبه إلا فى الحالات المحدّدة بالقانون..» وقد أورد القانون ٨٩ لسنة ٢٠١٥ أربع حالات تجيز إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. حالتان من هذه الحالات مطروحتان فى شأن إعفاء المستشار جنينة هى وجود دلائل جدّية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها، والإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو احد الأشخاص الاعتبارية العامة. هنا يجب التساؤل هل نشر أرقام حول حجم الفساد يدخل ضمن هاتين الحالتين فى الوقت الذى يوجب فيه الدستور نشر تقارير الأجهزة الرقابية على الرأى العام؟ أم أن الإعلان عن حجم الفساد لم يكن بذاته سبب الإقالة بل ما انطوى عليه هذا الإعلان من مبالغات وأخطاء محاسبية فنية؟ وإذا كان بالفعل ثمة مبالغات أو أخطاء محاسبية فنية فى تقدير حجم الفساد فهل يترتب على ذلك بالضرورة المساس بالأمن القومى أو المصالح العليا للبلاد؟ المسألة محل نظر لأن استشعار أى دولة بخطورة الفساد وإعلان مؤسساتها عن ذلك هو مدعاة للثقة وكسب تقدير العالم واحترامه لها، ويكفى إلقاء نظرة على تقرير الشفافية الدولية لنعرف أن هناك دولا متقدمة وديموقراطية تحتل تصنيفا لا يليق بها على صعيد مؤشرات الفساد. هذه الدول لا تنكر الفساد ولا تهوّن منه لكنها تعلن وتسعى لمكافحته دون أن يقلل هذا من تقدير واحترام العالم لها. هذه مسألة جديرة بأن نأخذها فى الاعتبار.

ما أود التأكيد عليه أن التحليل السابق مبنى على المعلومات والمعطيات المعلنة والمعروفة. أما إذا كانت هناك معلومات ووقائع تعرفها الدولة غير متاح معرفتها وكانت هى السبب الحقيقى لإقالة رئيس المحاسبات السابق من منصبه فهذه مسألة أخرى. لكن حتى فى هذا الفرض الأخير فإن على الدولة أن تتحلى بالشفافية وتذكر الأسباب الحقيقية لقرار الإقالة قبل خمسة شهور فقط من انتهاء ولاية رئيس أهم جهاز رقابى عتيد لمكافحة الفساد خصوصا أن الرجل الذى أُعفى من منصبه معروف بالاستقامة والنزاهة وطهارة اليد.

البعد المهنى

فى هذا البعد مخاوف وتساؤلات مقلقة تتجاوز شخص المستشار جنينة وتمس مجمل رؤية الدولة لقضية مكافحة الفساد. الخوف قائم ومشروع من ان يؤدى القانون رقم ٨٩ لسنة ٢٠١٥ مستقبلا إلى إضعاف استقلالية الجهاز المركزى للمحاسبات كضمانة أساسية لفاعلية دوره. فليس لدينا من معيار لقياس فاعلية هذا الجهاز إلا بقدر ما يكشف ويتصدى لفساد مؤسسات الدولة، كل مؤسساتها. من هنا يبدو موقف المستشار هشام بدوى الذى حلّ محل المستشار جنينة فى غاية الدقة والصعوبة. فإذا تهاون مع الفساد فسيعنى ذلك أن إقالة المستشار جنينة كانت بهدف تحجيم دور الجهاز. أما إذا قام المستشار هشام بدوى بالدور الذى يجب ويؤمل من الجهاز الاضطلاع به وفقا لقانون إنشائه ونصوص الدستور فإنه سوف يسجل لنفسه إنجازا مهنيا كبيرا، ويؤكد دور الجهاز فى مكافحة الفساد، ثم أنه سيبدّد أى شكوك أحاطت بقرار إعفاء سلفه من منصبه، فهل يتحقق هذا؟ الأيام وحدها ستحمل الإجابة عن مثل هذا السؤال.
سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات