ما بعد باريس وكاليفورنيا.. حين تختلط الحقائق بالتساؤلات - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 5:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما بعد باريس وكاليفورنيا.. حين تختلط الحقائق بالتساؤلات

نشر فى : الإثنين 21 ديسمبر 2015 - 10:45 م | آخر تحديث : الإثنين 21 ديسمبر 2015 - 10:45 م
فى ١٣ نوفمبر الماضى أسفر هجوم إرهابى على حفل موسيقى فى باريس عن وقوع أكثر من مائة ضحية. وفى ٢ ديسمبر وقع هجوم إرهابى آخر على مركز لإيواء ذوى الإعاقة فى سان برناردينو بولاية كاليفورنيا. فى الحالتين كان الاعتداء على الحياة. نحن إذن أمام ظاهرة إرهابية عمياء البصيرة لكنها حادة البصر، تعبر الحدود والبحار والمحيطات، تتنامى وتتفاقم. تصدمنا بحقائق تختلط بالتساؤلات.

أولى الحقائق أن تنظيم داعش الإرهابى سيظل يمثل لغزا كبيرا. فهل هو مختلف حقا عن تنظيم القاعدة أم أنه تنظيم القاعدة فى نسخة مموهة أخرى؟ فى الحالتين لا يبدو أنه ينطلق من أية طروحات أو تأويلات دينية. لو كان ذلك صحيحا حقا لاتجه صوب إسرائيل أو استهدف مصالحها فى الخارج أو تصدى مثلا للذين يعبثون بالمسجد الأقصى ويعتدون عليه ويسعون لتهويده، أو لقام بفتح جبهة جهادية عبر الجولان القريب منه ألف مرة أكثر من نيويورك أو كاليفورنيا مثلا. لكن شيئا من هذا لم يحدث لا من جانب «داعش» أو تنظيم «القاعدة» أو غيرهما من التنظيمات الإرهابية الأخرى. تبدو داعش وغيرها (كتنظيمات) أدوات سياسية وأمنية يستخدمها اللاعبون الإقليميون والدوليون فى لعبة لتقاطع المصالح مهما انقلب السحر على الساحر أحيانا. أما عن الإرهابيين أنفسهم (كأفراد) فهم بشر رافضون للحياة بصرف النظر عن العوامل المجتمعية التى أودت بهم إلى هذا الرفض.
***
بالطبع سيظل (السراب الديمقراطى) فى المجتمعات العربية وغياب الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان مناخا مناسبا لتفريخ الظواهر الإرهابية، وسيبقى الفقر والبطالة والظلم الاجتماعى محفزات للإرهاب، وستظل الثقافة العرب ــ إسلامية على حالها حاضنة ثقافية مغذية لعقول الإرهابيين. تعددت الأسباب والنتيجة واحدة وهى أن الإرهابيين بشر كارهون للحياة ورافضون للحضارة. بغير ذلك لا يمكننا تفسير العمليات الانتحارية ضد مدنيين عزل لا يعرف الكثيرون منهم أين تقع بالضبط سوريا أو العراق على الخريطة؟
الحقيقة أيضا أن الظاهرة الإرهابية نتاج لبيئة محلية وإقليمية وعالمية يصعب إنكارها. الإرهاب المعاصر يذكرنا بمقولة عالم الاجتماع الفرنسى Alexandre Lacassagne من أن لكل مجتمع المجرمين الذين يستحقهم (!) المجتمع هنا يشمل المحلى والدولى معا وإن تفاوتت الأدوار. على المستوى المحلى بدا الإرهاب هو النبوءة السوداء لمقولات مثل أنا أو الفوضى أو أنا أو الإرهاب. تحولت النبوءة إلى حقيقة على يد بعض الأنظمة العربية التى دفعت العالم دفعا لأن يختار بينها وبين تنظيم داعش أو القاعدة. أنظمة كانت يوما وطنية (بالحقيقة أو الادعاء) لكنها فى لحظات ما قبل السقوط استخدمت خيار «شمشون» فى إسقاط المعبد على رءوس الجميع. إنها الوطنية على الطريقة العربية (!).
أما البيئة الدولية من القوى العالمية المهيمنة فهى التى تدير مباراة الشطرنج الكبرى فى الشرق الأوسط، وما الجنود والأحصنة والأفيال والوزراء إلا هذه الدول الضعيفة والمنظمات الإرهابية وبعض المؤسسات المحلية المخترقة وأمراء الأندلس الذين يحركهم اللاعبون الدوليون من أجل لحظة الحسم النهائى بإسقاط الملك. عندها يمكن إعادة ترتيب كل شىء من جديد. يحدث هذا فى ظل أنظمة عربية مشوشة يستخدم بعضها الإرهاب وسيلة لمكايدة أنظمة عربية أخرى.
***
تطرح تفجيرات باريس ــ شئنا أم أبينا ــ عددا من التساؤلات المقلقة من أكثر من زاوية. فمن الناحية السياسية لا نعرف كم وكيف ستؤثر تفجيرات باريس على الموقف من الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي؟ وهل سيكون لهذه الأعمال الإرهابية وغيرها تأثير فى الإدراك الغربى بأن إنكار الحقوق الفلسطينية المشروعة هو المصدر البعيد والعميق للصراع فى المنطقة؟ هذا ما قالته رئيسة وزراء السويد ورئيس جنوب إفريقيا منذ فترة. أم أن تفجيرات باريس ستصب فى مصلحة إسرائيل وتؤكد مزاعمها بأنها امتداد للحضارة الغربية وسط صحراء عربية ليس فيها سوى الاستبداد والإرهاب؟ وماذا عن الموقف الغربى من الأنظمة العربية؟ هل ستؤثر تفجيرات باريس على الرؤية الغربية من هذه الأنظمة؟ وفى أى اتجاه سيكون هذا التأثير؟ ثمة اعتقاد بأن الدول الغربية ستكون أقل حماسة فى تشجيع التحول الديمقراطى فى المنطقة خوفا مما يصطحبه هذا التحول من احتمالات الفوضى والعنف والإرهاب. وربما يعتقد آخرون أن تفاقم الإرهاب سيزيد من اقتناع الغرب بأن غياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كان فى المنطقة العربية أحد عوامل إنتاج الإرهاب. أيا كان منطق كل من الرأيين فشواهد الحال توحى بأن الغرب بدأ يتشكك فى ما إذا كانت المجتمعات العربية جاهزة بالفعل للديمقراطية. هذا جزء من أسئلة عربية عصية تنتقل إلى الغرب نفسه لتدركه حيرة الاختيار بين الاستبداد والإرهاب.
تساؤلات أخرى ذات طابع حقوقى وقانونى تتردد داخل المجتمعات الغربية نفسها. فمنذ صباح اليوم التالى لتفجيرات باريس اندلع فى أوروبا وأمريكا نقاش جديد وخطير حول مراجعة وتعديل قوانين الهجرة والإقامة وحق اللجوء ومنح الجنسية للقادمين من دول عربية وإسلامية. تداعيات هذا النقاش لن تمس فقط موقف الغرب نفسه من قيمه الإنسانية والحقوقية (وهذا بذاته امتحان عسير) ولكن التداعيات ستؤثر عمليا وبالتأكيد على أوضاع ومصالح أعداد غفيرة من الجاليات العربية والإسلامية المقيمة فى ديار الغرب. سيلحق الضرر المجتمعات العربية أيضا. فرص الراغبين فى الهجرة ستقل بالتأكيد، فرص الباحثين عن السفر للعلم والدراسة يمكن بدورها أن تتأثر. وها هى الأحزاب اليمينية المتطرفة فى أوروبا تطالب بوقف الهجرة إليها وبسحب جنسية كثير من العرب والمسلمين وإعادتهم إلى بلدانهم الأم. وها هو دونالد ترامب المرشح الجمهورى للرئاسة الأمريكية يطالب علنا بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة. صحيح أن تصريحات ترامب قد قوبلت بالاستهجان والرفض من داخل أمريكا نفسه بل ومن الحزب الذى ينتمى إليه ترامب، لكن هذا لا ينكر حقيقة أن مخاوف المجتمعات الغربية من التواجد الإسلامى فيها قد وصلت إلى حدود مقلقة. استطلاعات الرأى تكشف عن صعود ملحوظ لشعبية «ترامب». ثمة توافق نادر بين الحكومات والمجتمعات الغربية ضد ما يوصف بمخاطر الاختراق الإسلامى للغرب. المخاوف تتحول إلى نزعات كراهية تتنامى. والأصوات العاقلة والإنسانية تخفت وسط هيستيريا الخوف من المسلمين والإسلام معا. هنا قد تبدأ أولى مراحل ارتداد الغرب على قيمه الحضارية نفسها، وهذا بذاته سؤال آخر.
***
آخر التساؤلات يدور حول الجهة الأكثر استفادة مما حدث فى باريس وكاليفورنيا. المسلمون متضررون بالطبع شعوبا وحكومات. فرنسا وأمريكا وكل دولة أخرى قتل الإرهاب مواطنيها متضررة. السلام العالمى متضرر. إسرائيل وحدها هى المستفيدة وهى تراقب بعين قلقة تنامى الوجود الإسلامى فى دول الغرب والذى أصبح وجودا نوعيا وليس عدديا فقط. تدرك إسرائيل أنه لو ظل المسلمون والعرب فى أوروبا وأمريكا يتزايدون بالمعدلات الحالية كميا ويشاركون فى مجتمعاتهم الجديدة نوعيا فإنهم صائرون لا محالة بعد عقود قليلة للاندماج (والتأثير) فى الحياة السياسية للمجتمعات الغربية، وهو الدور الذى يقوم به اللوبى اليهودى حاليا. الخوف الإسرائيلى من لوبى مسلم عربى متأقلم ومقبول ونشط فى مجتمعاته الغربية الجديدة أمر يثير بيقين فزع إسرائيل.
نجحت إسرائيل بامتياز فى أن تبعد خطر الإرهاب عنها مع أنها تقع جغرافيا قرب فوهة بركان الإرهاب ذاته. أليس فى هذه المفارقة ما يبعث على الدهشة والتساؤل؟

أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائى بحقوق الإسكندرية

اقتباس
شواهد الحال توحى بأن الغرب بدأ يتشكك فى ما إذا كانت المجتمعات العربية جاهزة بالفعل للديمقراطية.
سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات