قضية «أحمد منصور».. أبعادٌ قانونية ودلالاتٌ سياسية - سليمان عبدالمنعم - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قضية «أحمد منصور».. أبعادٌ قانونية ودلالاتٌ سياسية

نشر فى : الأحد 28 يونيو 2015 - 11:00 ص | آخر تحديث : الأحد 28 يونيو 2015 - 11:00 ص

باتت قضية احتجاز الإعلامى أحمد منصور فى ألمانيا ثم إطلاق سراحه ورفض السلطات الألمانية تسليمه إلى مصر قضية سياسية وحقوقية وإعلامية، بأكثر من كونها مجرد قضية تسليم قانونية، مثل غيرها من مئات وربما آلاف قضايا التسليم الدولى. فى القضية أبعاد قانونية جديرة بالنقاش، ولا تخلو أيضا من دلالات سياسية مثيرة للتأمل. هنا محاولة لاستجلاء هذه وتلك.

أبعادٌ قانونية
التسليم هو إحدى آليات التعاون القضائى الدولى بموجبه تطلب دولة أو محكمة دولية من دولة أخرى تسليمها أحد الأشخاص الموجودين على إقليمها بهدف محاكمته أو تنفيذ الحكم الصادر ضده.

ويجد التسليم مرجعيته القانونية إما فى اتفاقيات ثنائية أو إقليمية مثل الاتفاقية العربية للتعاون القضائى والاتفاقية الأوروبية للتسليم، وإما أخيرا فى اتفاقيات عالمية مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة واتفاقية الأمم المتجددة لمكافحة الفساد، وقد انضمت مصر إلى الاتفاقيتين الأخيرتين وصادقت عليهما. هذا بخلاف التشريعات المحلية للتسليم. ومصر ما زالت من الدول القليلة فى العالم التى لم تسن بعد تشريعا متكاملا لتنظيم الجوانب المتعلقة بالتسليم.

البعد القانونى الأول ينصب تحديدا على سبب رفض السلطات الألمانية طلب التسليم المصرى. يبدو أن هناك أسبابا معلنة وأخرى مضمرة لرفض الطلب المصرى. السبب الأبرز المعلن وفقا لبيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية أن ألمانيا لن تُسلِّم أى شخص لأى دولة قد يواجه فيها حكما بالإعدام. هنا يلاحظ أن الحكم الصادر ضد أحمد منصور كان بالسجن خمسة عشر عاما ولم يكن صادرا بالإعدام، فلماذا كانت الإشارة إذن لحكم الإعدام الذى لم يصدر أصلا بحق المذيع فى قناة الجزيرة؟ تفسيران ممكنان أولهما أن بعض الجرائم المنسوبة إليه والتى صدر الحكم بسجنه بناء عليها يعاقب عليها ــ من الناحية النظرية ــ بعقوبة الإعدام. التفسير الثانى الانطباع السلبى السائد على مستوى العالم بفعل مئات الأحكام التى صدرت بالإعدام من محاكم مصرية فى الفترة الأخيرة فى ظل إجراءات محاكمة كان واضحا تسرعها بشكل غير مفهوم أو مبرر.

ثمة أسباب أخرى مضمرة وغير معلنة لرفض طلب التسليم المصرى قد لا تُعجبنا أو تُقْنعنا لكنها فى عالم اليوم حقائق قانونية وواقعية يصعب تجاهلها. فطلبات التسليم لا يتم فحص أساسها القانونى وشروط الموافقة عليها استنادا لتشريع الدولة الطالبة فقط بل أيضا وعلى وجه الخصوص وفقا لتشريع الدولة المطلوب منها التسليم. ولا يقصد بالتشريع هنا حَرْفية النصوص أو الإجراءات بقدر ما يقصد بالتشريع النظام القانونى ككل بما يتضمنه من مبادئ دستورية أو قانونية عامة قد تعلو على التشريع العادى نفسه. والدول الأوروبية الغربية ترتبط فيما بينها باتفاقيات للتسليم ولحقوق وحريات الإنسان ذات سقف ومعايير أعلى مما نجده فى دول أخرى كثيرة. أكثر من هذا أن الممارسة الفعلية لقضايا تسليم المتهمين تثبت أن القيم والتقاليد السياسية والحقوقية فى الدولة المطلوب منها التسليم تبقى حاضرة بقوة فى خلفية قرارها بالموافقة أو الرفض. ولعلّ هذا يفسر بعض ردود الفعل الغاضبة فى ألمانيا نفسها عقب احتجاز إعلامى قناة الجزيرة. ثمة واقع دولى يؤكد أن طلبات التسليم المقدمة من دول ليس لها حضور حقوقى وديموقراطى على الساحة الدولية غالبا ما يُنظر إلى طلباتها بعين الريبة والشك خصوصا إذا تعلّق الأمر بتسليم صحفيين أو كتاب أو ذوى مواقف سياسية معارضة. هذا واقع يتعين إدراكه سواء اتفقنا مع منطقه أم لم نتفق.

***

بعدٌ قانونى آخر غير معلن لرفض طلب التسليم فى قضية الإعلامى أحمد منصور، وربما فى غيرها من قضايا التسليم الأخرى وهى أن الدول الغربية غالبا ما ترفض طلبات تسليم المتهمين أو المحكوم عليهم المقدمة إليها إذا ما قدّرت أن الشخص المطلوب تسليمه سيتعرض لأى ممارسات أو أساليب غير إنسانية تنطوى على الإيذاء أو المساس بالكرامة مثل التعذيب. ومعظم دول أوروبا الغربية ترفض طلبات التسليم فى هذه الحالة برغم أن الاتفاقية الأوربية للتسليم لم تنص عليها صراحة، لكن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سبق لها أن أكدت على وجوب رفض التسليم لهذا السبب مهما كانت بشاعة الجرم المنسوب إلى الشخص.

من بين الأسباب المضمرة الأخرى للقرار الألمانى برفض التسليم ما تنص عليه معظم إن لم يكن سائر الاتفاقيات الدولية من رفض طلب التسليم إذا كان بشأن جريمة سياسية (باستثناء الإرهاب وبعض الجرائم القليلة الأخرى) أو كان الباعث على ملاحقة الشخص سياسيا. وعلينا أن نتوقع أن يتم تقدير ذلك من جانب الدولة المطلوب منها التسليم وفقا لنظامها القانونى وقيمها السياسية وتقاليدها الحقوقية وذلك بمعزل عن التقييم القانونى للدولة طالبة التسليم.

السؤال الآن هل الدول الغربية ذات النظم القانونية المتمدينة تفحص طلبات التسليم المقدمة إليها بمثل هذا التجرد والموضوعية والكمال القانونى أم أن قرارها يشوبه التسييس أحيانا؟ الواقع أن سوابق التسليم الدولى لا تخلو من مثل هذا التسييس وربما الازدواجية. فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا لم تتردد فى تسليم السعودية أحد المتهمين فى ما عُرف بتفجيرات الخُبر فى عام ١٩٩٤ برغم أن جريمته كان يعاقب عليها بالإعدام بل وبرغم أنه كان لأمريكا نفسها ولاية قضائية بمحاكمة المتهم لأن معظم الضحايا كانوا مواطنين أمريكيين. لكن يبدو أنه كان لأمريكا آنذاك مآرب وحسابات أخرى بالموافقة على هذا التسليم. ولعلّ ما يؤكد واقع تسييس النظام القانونى الدولى لتسليم المتهمين والمحكوم عليهم أن معظم النظم القانونية التى تأخذ بأسلوب التسليم القضائى حيث يكون لقضائها المحلى سلطة فحص وحسم طلبات التسليم تمنح حكومتها فى نهاية المطاف سلطة رفض طلب التسليم حتى ولو كان القضاء قد وافق عليه. السياسة إذن حاضرة، وبقوة، فى قلب الجدل القانونى حول النظام القانونى للتسليم. مطلوب إذن استخلاص الدلالات السياسية لما حدث.

دلالات سياسية
لأنه يصعب تخليص النظام القانونى للتسليم فى مرحلة تطوره التاريخى المعاصر من اعتبارات السياسة فإن علينا أن نبحث عن هذه الاعتبارات السياسية فى قضية الإعلامى أحمد منصور، وربما فى قضايا أخرى. أول هذه الاعتبارات يتعلق بالواقع السياسى والديموقراطى فى مجتمعنا وعلى وجه التحديد بقضية حقوق وحريات الرأى والتعبير والاختلاف السياسى. هنا نلاحظ غياب الاقتناع الدولى بالطلب المصرى. معظم أطياف الرأى العام العالمى انتقدت سريعا أو أبدت قلقها من القبض على الإعلامى الشهير فى مطار برلين ابتداء من الأمين العام للأمم المتحدة وجهات دولية كبيرة ومؤسسات حقوقية مؤثرة وكتاب عالميين بل وأحزاب ألمانية. هذا يدعونا للتساؤل هل كان طلب التسليم مدروسا بعناية ومن جميع جوانبه بواسطة الجهات أو السلطات التى عكفت عليه أم أنه ما زال ينقصنا الجانب الاحترافى وشمول الرؤية فى مثل هذه الملفات؟ كان المطلوب فى دراسة الموقف من تقديم طلب التسليم ألا نكون حافظين جيدين لنصوص القانون المصرى فهذا طلب دولى كان يجب أن يسبقه الإلمام الكافى والواعى (عن فهم وليس عن ترجمة أو حفظ) لكل المنظومة القانونية الألمانية والأوروبية عموما فضلا عن امتلاك رؤية واسعة للواقع الحقوقى الدولى بدلا من الرؤية الأحادية للقانون المصرى فقط وكأن مصر تطلب من مصر تسليم أحد الأشخاص!

ليس عيبا أن نعترف أن ثمة أصداء سلبية دولية وانطباعات سرعان ما جرى تعميمها حول مؤسسة العدالة فى مصر عقب صدور مئات الأحكام بالإعدام فى الفترة الأخيرة أحيانا فى جلسة واحدة. ربما نتفق أو نختلف حول هذه الأحكام لكن المؤكد أنها بدت بمثابة النيران الصديقة التى أصابت طلب التسليم المصرى من قبل إخضاعه الكامل للإجراءات القضائية فى ألمانيا.

***

والمشكلة هنا لا تكمن فى أحكام الإعدام بحد ذاتها، فكثير من دول العالم بما فيها بعض الولايات الأمريكية تصدر أحكاما بالإعدام، والصين تنطق محاكمها سنويا بمئات أحكام الإعدام معظمها بسبب جرائم فساد ورشوة. المشكلة لدينا تكمن فى افتقاد المحاكمات الجنائية المنصفة وذلك أحيانا لعدم مراعاة ضمانات وإجراءات أو حتى شكليات لم يكن ليضير المحكمة شيئا من كفالتها، ولم يكن ليترتب على اتباعها إفلات مذنب حقيقى من العقاب. أدى هذا إلى حدوث العكس فاهتزت قيمة العدالة لدى الكثيرين. وجزء من نجاح ومصداقية مؤسسة العدالة فى أداء وظيفتها ألا تترك شكوكا تراود الناس بشأن قيمة العدالة.

هنا ــ مرة أخرى ــ علينا أن نتذكر ونتأكد أن رفض دول أجنبية لطلبات التسليم المقدمة من السلطات المصرية سواء عن جرائم جنائية أو جرائم فساد أو لاسترداد أموالنا المنهوبة يتأسس أحيانا على أن أحكام الإدانة الصادرة عن المحاكم المصرية لا تتوافر فيها الضمانات القانونية للمحاكمات العادلة وفقا للمعايير الدولية. حدث هذا من قبل، ويحدث الآن، وربما سيحدث غدا ما لم تتغير رؤيتنا وممارستنا بشأن الكثير من المفاهيم والقضايا. فنحن لا نعيش فى هذا العالم وحدنا.

سليمان عبدالمنعم أستاذ بكلية الحقوق ــ جامعة الإسكندرية
التعليقات