الإسكندرية - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 6:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإسكندرية

نشر فى : السبت 18 أبريل 2009 - 4:19 م | آخر تحديث : السبت 18 أبريل 2009 - 4:19 م

 
قضيت الأسبوع الماضى ثلاثة أيام فى الإسكندرية. كنت عضوا فى لجنة مناقشة ثلاث رسائل ماجستير فى جامعة سنجور كممتحن خارجى فى قسم «إدارة الثقافة». وتعد جامعة سنجور واحدة من المؤسسات الرئيسية للمنظمة الدولية للفرنكوفونية. معظم طلبتها من الدول الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية.

والجامعة مبنى ضخم وقبيح أمام نصب الجندى المجهول على الكورنيش فى المنشية. هناك التقيت عددا من الطلبة أمضوا عامين فى الإسكندرية وهى المدة المحددة لإعداد الماجستير، وبقى أمامهم جميعا شهر واحد، يعود بعده كل منهم إلى وطنه. كانوا ثلاث سيدات من الكاميرون والكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل.

وثلاثة رجال من بوركينا فاسو وكوت ديفوار والكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى طالبة مصرية كانت الوحيدة من مصر فى هذه الدفعة. سمعت منهم انطباعاتهم عن عروس البحر المتوسط أنقلها إليكم بكل أمانة ودون تعليق منى.

بدأ الحديث عن الإسكندرية المتخيلة فى أذهانهم قبل المثول فى حضرتها البهية: تخيلوها مدينة عربية تحتضن شعبا سمحا مضيافا، متعدد الثقافات، منفتحا على الثقافة المتوسطية، كما سمعوا أن هناك وجودا فرنكوفونيا محدودا. ولكن هذه الإسكندرية لم يجدوها للأسف فى الإسكندرية.

سكنوا جميعا فى عمائر مرتفعة بحى ميامى. لم يتعرف أى منهم على جار من جيرانه. يلتقون بهم فى رحلة المصعد هبوطا أو صعودا، يبدأون بالتحية فيتلقون أسوأ منها. يبتسمون ويكون التكشير عن الأنياب هو الرد الذى عادة ما يتلقونه. وعندما بدأ الطلبة يتحادثون سويا فى هذا الأمر وجدوا أنها حالة عامة.

فيبدو أن شعب الإسكندرية لم يسمع بأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ــ وصّى على سابع جار. التدخل الوحيد من الجيران كان منع دخول أى زائر ذكر لساكنة أنثى بأوامر عليا من المسئول عن العمارة، فيتم طرد كل من تسول له نفسه زيارة زميلته، فهو بالتأكيد يريد ممارسة الرذيلة جهارا نهارا وعلى جميع السكان العمل بكل جدية على منع هذه المهازل فى عمارتهم الشريفة الطاهرة.

حاولوا إقامة صداقات مع شباب سكندرى فى مثل سنهم من جامعات مختلفة ولكن كان الفشل الذريع نصيبهم، وخرجوا من رحلة العامين دون صديق واحد يوحد الله. يرفضون الاعتراف صراحة أن هناك ثمة شعورا عنصريا عاما ضد البشرة الأفريقية السوداء. ولكننى فى كل جملة سمعتها منهم فهمت ضمنيا أن هذا الشعور تملكهم.

حكت لى الفتاة الكاميرونية أنها فى كل مرة ارتدت فيها الأزياء الأفريقية زاهية الألوان تلقى فى الشارع من السخريات والاستهزاء ما يجعلها تندم على ارتداء ملابسها الكاميرونية. وعندما ترتدى الملابس الأوروبية يتحرشون بها بكل تبجح، ويصل الأمر إلى لمس المؤخرات مع إصدار تأوهات قبيحة. أكد الجميع أن الشارع السكندرى استقبلهم فى العموم بشكل عنيف وقاس وكان معاديا لكل ما هو مختلف. أما المعاكسات ضد صنف النساء فقد شرحتها لى السيدات بالتفصيل وأكدن أن خيالهن الجامح لم يصل إلى سفالة ووضاعة ما شاهدن فى الإسكندرية.

قال لى أحدهم إن المسيحيين كانوا أكثر بساطة فى الاقتراب منهم. ولكن السؤال الأول كثيرا ما انصب حول ديانتهم. لم يفهموا لماذا كل هذا الاهتمام بالديانة تحديدا، بينما يمكن أن تنشأ بينهم كشباب من جنسيات مختلفة عشرات القضايا المشتركة التى يمكن مناقشتها. فضولهم ونهمهم لمعرفة ما يجرى من أحوال فى مصر لم يقابله أى فضول على الإطلاق من الجانب الآخر.

أعلن أحدهم أن الإسكندرية الكوزموبوليتانية التى قرأ عنها قد بدت له أنها ماتت وشبعت موت. فالسائد اليوم ليس بالتأكيد تعدد الثقافات وإنما ثقافة واحدة. وهى ثقافة ليست عربية وإلا كانوا تعرفوا على جيرانهم فى سكن دام لمدة عامين. وليست ثقافة إسلامية وإلا لما تم التحرش بالسيدات فى الشارع بهذه الصورة الفجة.

وليست ثقافة متوسطية وإلا ما ظهرت العنصرية البشعة ضد البشرة الأفريقية السوداء. ولكن الثقافة السائدة هى بالتأكيد ثقافة متزمتة وقاسية. كيف يمكن اتهام الإسكندرية بالتزمت؟ وأين أثر هذه الطلّة المباشرة على البحر الأبيض؟ وأين أثر هذا الهواء الذى يأتى من الشمال محملا بأفكار ظلت تدور فوق المتوسط لآلاف الأعوام؟ أجابوا أن هذا الهواء الآتى من الشمال لم يجعل الشعب السكندرى اليوم أكثر حساسية للتفاعلات الثقافية والفنية والأدبية.

فلم يجد الطلبة فى جامعة سنجور بيئة ثقافية ثرية وهم الذين جاءوا من بعيد لدراسة الثقافة.

عدت إلى القاهرة وسؤال يصاحبنى: هل الإسكندرية التى ظلت تقود حركة التغيير فى النصف الأول من القرن العشرين لم يصبح لها وجود؟
كتب الروائى السكندرى الكبير «إبراهيم عبدالمجيد» يوما عن كاتب القاهرة الأشهر نجيب محفوظ أنه: «حين كتب عن القاهرة جاءت رواياته كلاسيكية البناء، وحين انتقل إلى الاسكندرية عام 1961 ليكتب روايته الفذة اللص والكلاب تغيّرت عنده الكتابة، صارت عصرية، حداثية، أكثر تحررا فى اللغة، شعرية، شديدة القفزات فى الحوار. صارت فى الكتابة حرية».

بعد مرور نصف قرن على هذه النقلة فى أدب نجيب محفوظ، هل لا تزال الإسكندرية قادرة على منح هذا الأفق الأرحب لكتاب جدد؟



خالد الخميسي  كاتب مصري