دراما الحياة - إسعاد يونس - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 2:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دراما الحياة

نشر فى : الخميس 18 يونيو 2009 - 5:51 م | آخر تحديث : الخميس 18 يونيو 2009 - 5:51 م

 عندنا فى السيما عندما ننوى صنع فيلم، يكون همنا الأول هو ما نطلق عليه «الورق».. وهو القصة والسيناريو والحوار، الموضوع، الحكاية، الحدوتة.

ونبدأ فى البحث فى مجموعة التيمات الدرامية المحدودة التى نتحرك بين موضوعاتها.. نعمل عقدة أوديب واللا لوليتا واللا هاملت واللا الكونت دى مونت كريستو واللا واللا واللا..

كنا فى الماضى نلجأ للأدب الروائى ونستعين بمؤلفات كتابنا العظام أمثال يوسف إدريس ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس إلى آخر القائمة الطويلة العظيمة.. ولكن تغير المجتمع ودخلنا عصر الانفتاح فانفتحنا على النصوص الأجنبية واقتبسناها ونقلنا عنها. وعندما ظهرت موضة البطل الأوحد من الجلدة للجلدة كان يجب ألا نلجأ لنصوص جاهزة، ولكن وجب التفصيل على مقاس البطل. وهنا تحول معظم كتاب الدراما المتخصصين فى السينما إلى ترزية. وحدث نوع من الخصام بين الدراما المتقنة المستقاة إما من الأدب الروائى أو من الواقع المجتمعى وبين ما نقدمه.. حيث أصبحت الموضوعات تدور فى فلك البطل وتناسب إمكاناته أو تحقق أحلامه المجهضة فى الواقع.. فاللى بيخاف من الصرصار يقتل مية وألف فى الأفلام.. ومنزوع الوسامة زى منزوع الدسم كده يبوس كل البطلات وتقع فى حبه نساء الأرض. وسعى كل نجم سينمائى إلى رسم صورة مثالية لنفسه على الشاشة.. فبدأ يتدخل فى أحداث الرواية ليصور نفسه فى صورة البطل المحبوب القمور المسبلاتى الجامد قوى المظلوم الحنين الباكى الشاكى والذى لا يموت فى آخر الفيلم.. ثم ابتلينا بمقولة السينما النظيفة. وفهم البعض أن السينما النظيفة هى التى تخلو من القبلات.. بينما فهمها البعض الآخر على أنها نظيفة ومستحمية ومتليفة بشاور جيل يمسح المعالم ويفقد الشخصيات ألوانها ولحظات ضعفها.. وأصبحت المشاعر الإنسانية تتلخص فى واحد طيب قوى.. وواحد شرير قوى.. أبيض وأسود.. ما هى السينما النظيفة كانت تحتوى على كميات من الكلور مزيل البقع.. وما الإنسان إلا ثوب أبيض مبقع.. الفرق فى كثافة البقع واختلاف ألوانها ومقاومتها للمبيضات.. فى بقعة بتطلع بكتر الدعك والتهذيب والإصلاح والموعظة الحسنة.. وفيه بقع ما بتطلعش ولا بمية النار.. أما الأصل فهو اللون الأبيض.

وقادتنا السينما النظيفة إلى تسقيع الشخصيات، وبينما كانت شخصيات الفيلم المصرى ترتعش وتتجمد فى فريزر الدراما المتفصلة.. كانت شخصيات الواقع تصاب بجميع بقع الكون.. تتلطخ مرة بالطين ومرة بالدم.. ثوبها متطرطش بوحل الفقر والجهل والضلالة.. والزحام.

فى خارج زنزانة السينما المكسوة بالجليد يوجد بشر يجمعون تحت جلودهم كل الألوان. والأمثلة كثيرة.. تزدحم بها صفحات الجرائد وأقفاص المحاكم وعنابر السجون.. فمن يريد أن يقوم بعملية ضخ الدم للدراما ليس عليه أكثر من فتح النافذة.. ومد يده لينتقى نموذجا لصخب الألوان هذا.. ليجده متمثلا فى شخصيات قريبة جدا تعيش بيننا قمة فى الوداعة.. ثم فجأة تتحول إلى نموذج مثالى لما يمكن أن يحلم به أى كاتب دراما فى الدنيا.

منها مثلا هذا الرجل المسالم المحب لزوجته وأبنائه.. كانت لديه قوانين تحكمه فى منزله قوامها منتهى الدعة والتفاهم.. عاش معظم سنوات حياته منتميا للطبقة المتوسطة المثقفة.. تزوج من سيدة فاضلة وأنجب منها ولدا وبنتا.. وعاش راضيا قانعا مستمتعا بحياة مستقرة آمنة هادئة لا يشوبها إلا بعض الأحلام بالثراء.. حاله حال كل الناس الذين يحلمون نفس الحلم.
ثم يجىء التحول الأول فى الدراما عندما تقوده الظروف للتعرف على شخص يقنعه بالمضاربة فى البورصة.. ويبدأ معه رحلة الثراء الذى يوفر له حياة رغدة.. ويجعله ينعم برؤية أولاده يرتاحون ماديا بعض الشىء.. ثم يفقد الثروة فجأة وبعد أن تعود على مستوى مرتفع فى المعيشة.. فلا يقبل عقله فكرة العودة للحياة المتقشفة التى كان يحياها من قبل.

فماذا يمكن أن يحدث لهذا الرجل المتزن المعروف بالدعة والهدوء وكأنه نموذج للثوب الناصع البياض.. أى كاتب دراما يمكن أن يتخيل أن يجلس الرجل على فراشه وهو يفكر تفكيرا عميقا يجعله ينفصل عن واقعه.. تأمل اللحظة.. فيم كان يفكر؟.. أين حلق خياله؟.. أى روح شريرة تلك التى تملكته؟.. أى شيطان ذلك الذى هبط عليه وقبض روحه الطيبة؟.. أى قوة خارقة تلك التى جعلته فى لحظة يقوم ليأتى ببلطة وينهال بها على جسد زوجته؟.. ثم يتجه إلى فراش أولاده فينهال عليهم طعنا حتى يلفظوا أنفاسهم الأخيرة بين يديه.. مشهد قمة فى العنف والدموية.

تخيل المنطق الذى صوره له الشيطان فى مشهد الغواية هذا؟.. أن قم اقتل المرأة والأولاد حتى تضمن لهم الشهادة.. أى خدعة؟.. الشيطان يجمل الجريمة.. الشيطان يغريه بالشهادة.. ولكن هل وسوس له بقتل نفسه؟.. أم أن الرجل شعر بالورطة.. إذا كان يجب أن ينفذ الأمر فكيف سيواجه نفسه بعدها؟.. وقد يكون استشعر الضعف فقرر فيما بينه وبين نفسه أن يتخلص من أثر الجريمة التى ستعذبه إن عاش وشهد توابعها.. فقرر أن يقتل نفسه.. ولكن برحمة هذه المرة.. قرر أن يقطع شرايينه حتى يموت بهدوء.. المهم أن يموت وخلاص.. وينتهى المشهد وقد تمدد الرجل على فراشه منتظرا الموت.. فتغيم الرؤية وتهتز الصورة.. وتتلاشى أصوات الشارع وتصاب الشاشة بالزغللة الشديدة ثم.. سواد.. يبقى للأذن صوت أنفاس تبطئ رويدا ودقات قلب تخفت ببطء..

فجأة تعود الصورة إلى الوضوح.. وتبدأ بعض الأصوات والخيالات فى الظهور.. تغير عنيف فى الدراما.. الرجل يفيق فى المستشفى.. قد يكون فى الغرفة من يفرح لهذه الإفاقة.. إلا أن الرجل يجن.. لماذا أنقذتمونى؟.. لم يكن هذا فى خطتى.. لم يكن مفروضا أن أعيش.. يا للعذاب الذى سألاقيه.. ليس من أفراد الشرطة والنيابة التى تزدحم بهما الغرفة.. وإنما من ذلك الذى بداخلى.

تتوالى المشاهد بعد ذلك ما بين تحقيقات النيابة وجلسات المحاكمة.. والرجل صامت.. يتهاوى.. لا يشعر بما يدور حوله.. يريح نفسه والمحققين بأن يجيب عن كل الأسئلة بنعم.. نعم قتلت.. كيف؟.. هذا هو السؤال الذى لا يجد له إجابة.. إنه لا يعرف كيف.. أين ذهب ذلك الشيطان الذى غرر بى؟.. آه لو يعود الزمن نصف ساعة.. فقط نصف ساعة قبل أن أجلس على الفراش.. قبل أن تذهب روحى.

مشاهد المحكمة تمتلئ بالمفاجآت.. أشقاء زوجته يعشقونه لدرجة أنهم يشهدون فى صفه وهو يحاكم بقتلها.. المحامى يتقدم بطلب عرضه على الطبيب النفسى تمهيدا لإثبات أنه مجنون حتى ينجيه من حكم الإعدام.. وينتهى المشهد بموقف ميلودرامى.. الرجل يعنف محاميه ويسبه.. بل ويطلب من المحكمة تجاهل الطلب.. يرفض محاولات المحامى لإخراجه من مأزق الوقوف على الطبلية.. وكيف سيقف وقد أصبح حطاما.. جسدا خاليا من كل معالم الحياة.. يحملونه ويجرونه على كرسى بعجل..

يرجو القاضى أن يرحمه بإعدامه.. يصدر الحكم.. تخيله يتنفس الصعداء.. ولكن تخيل أيضا مشاعره.. ألم يخف لحظة؟.. ألم يهاب إجراء تلاوة القرآن وتلاوة الحكم وتغميم عينيه وكل ما يصحب التنفيذ.. ثم انظر إلى قمة الإبداع فى الدراما.. الذى لم تخطه يد بشرية.. انظر كيف تنتهى الأحداث.

فى زنزانته وقد أصبح حطاما بشريا تكوم على نفسه فى انتظار استدعاء عشماوى له.. تأتى اللحظة السحرية.. تنزل عليه رحمة السماء وكأن الله اكتفى بالعذاب.. لم يشأ أن يعرضه لتلك اللحظات.. يكفيه ما رآه من هدير الموت وملامح فلذات أكباده وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة على يديه.. هل كان سيستعطف عشماوى وهو ينفذ الحكم؟؟ هل كان سيستسلم له وهو على كرسيه المتحرك.. متى نزلت عليه رحمة السماء؟.. أرسل الله ملكه ليقبض روحه فى صمت.. هكذا كان الحكم الربانى الرحيم الذى فاق كل أحكام البشر.. وبالتاكيد يفوق خيال أى مؤلف دراما سينمائية.

طبيعى أن نلجأ للواقع الذى يحيط بنا إذا ما أردنا دراما حقيقية تنبض بالحياة.. ولكن تظل هناك مشكلة واحدة.


هل سيصدقنا الناس؟

إسعاد يونس  فنانة ومنتجة سينمائية مصرية
التعليقات