قرطبة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قرطبة

نشر فى : السبت 25 أبريل 2009 - 7:56 م | آخر تحديث : السبت 25 أبريل 2009 - 7:56 م

 جاء لزيارة منزلنا رجل أمريكى أشقر يدعى «تشارلز باترورث»، كان قد تعرف إلى خالى وجاء للقاء جدى «مفيد الشوباشى». كنت حينذاك فى الصف الرابع الابتدائى، وأثارت زيارة هذا الرجل اهتمامى، لكونه أمريكيا، فقد كنت لأول مرة أرى رجلا من أرض الأعداء. هكذا كان الأمر فى حينها. فقد كان يشاع أن الأمريكيين فى القاهرة هم فى الواقع عملاء لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. جلست معهما وأنا أتابع لغته العربية الفصحى الركيكة، وأمسك نفسى عن الضحك بصعوبة. بدأ فى تعريف نفسه، وهو أمر لو تعلمون فى منتهى الصعوبة، فقال إنه متخصص فى ابن رشد. جاء إلى القاهرة لمزيد من البحث فى أعمال ابن رشد خاصة كتاباته فى علم المنطق. وأضاف أنه قام بتحقيق أكثر من دراسة له. كان جدى قد ألف كتابا حول أثر الحضارة العربية على الحضارة الأوربية وقد اهتم بالطبع بابن رشد فى إطار دراسته هذه.

ودار الحوار بينهما لمدة الساعة حول هذه الشخصية التى لم أكن سمعت عنها شيئا من قبل. وفى اليوم التالى وفى حصة الألعاب المحببة لى، تحدثت بكل فخر مع أستاذ المادة وكان متخصصا فى كرة اليد عن ابن رشد للحصول على مزيد من المعلومات عن هذه الشخصية فقال لى: ابن رشد ده يا بنى مش بنى آدم، ده شتيمة»، ثم ضحك على طرافته وبدأ يتحدث عن الهدف المعجزة الذى أحرزه زيزو بالأمس. ورغم موقف أستاذى هذا، فإن هذا الفيلسوف العربى الأندلسى استمر فى إثارة اهتمامى بشكل خاص، كما استمرت علاقتى بالأستاذ الجامعى الأمريكى حتى يومنا هذا، بعد أن عرفت أنه ليس «سى أى إيه» وإنما قضى جل حياته فى دراسة ابن رشد. وعلى مدار ما مر بى من أيام كان موقف أستاذ مادة التربية الرياضية هو موقف معظم من سألتهم عن ابن رشد.

تذكرت «تشارلز» وأستاذى، وأنا أجلس الآن أمام تمثال ابن رشد فى مدينة قرطبة وهى المدينة التى ولد فيها هذا الفيلسوف العظيم. فمن بين كل مدن إسبانيا يكون لى الشرف والحظ أن يكون ناشرى الإسبانى «مانويل بيمونتل» من مدينة قرطبة. ويكون مكتبه على مسافة قصيرة من تمثال ابن رشد فيها. يفتخر ناشرى كونه أندلسيا ويفتخر به الجميع، هنا فى إسبانيا كونه الوزير الذى قدم استقالته من وزارة أزنار التى قبلت الدخول مع بوش فى كارثة الخليج. نقف معا أمام التمثال ونتأمله، التمثال من الحجر الأبيض. ابن رشد فى الخمسين من العمر، ترتسم على وجهه لحظة سلام، وهو يتأمل الفضاء من أمامه. يرتدى عمامة على رأسه، ومن خلفه يمتد سور المدينة القديم على مدى البصر. وعلى يمينه مجرى مائى يوازى السور من الخارج ويحدث خريره راحة نفسية لا مثيل لها. اعترض مانويل على قرار المثال، وقال لى إن الأندلسيين لم يتعمموا. أجبته أننى سوف أسأل رضوى عاشور التى كتبت «غرناطة» لأعرف رأيها فى موضوع العمامة هذا. مررنا من باب «المظفر» وهو يقع على يمين التمثال مباشرة. ثم ولجنا يمينا فى شارع المنصور. شارع ضيق مبلط. وهناك دخلنا أحد المنازل. عمارة إسلامية صرفة، الباب الخارجى من خشب مشغول عاشق ومعشوق، يفتح على حجرة مربعة ضيقة، حوائطها حتى منتصف ارتفاعها مغطاة بالسيراميك المرسوم والملون بالأشكال النباتية. تطل هذه الحجرة المدخل على صحن الدار. تخطو إليه فتتنفس الدنيا، فى الصحن نافورة وشجرة، ومساحة من الخضرة والزهور فى أوانى من الفخار. وحول الصحن تطل الحجرات من الأضلع الأربعة للمربع. نزلنا فى البداية إلى البدروم. تغطيه أرضية رومانية.

قال لى مانويل إنك لو حفرت بعمق مترين فى أى مكان فى قرطبة سوف تجد آثارا رومانية. فسألته عن الآثار الإسلامية فأجاب: نحن نعيش عليها وفيها. زرنا بضع حجرات، واحدة منها تتوسطها مشربية. كنت أتخيل قبل زيارتى لقرطبة أننى سوف أشاهد هناك آثار دولة العرب كما أشاهد آثار الفراعنة فى القاهرة.

ولكننى كنت مخطئا تماما. فالعمارة كلها عربية. اعترض مانويل: «ما تراه هنا فى قرطبة هو العمارة الأندلسية، والسيراميك المرسوم هو من إبداعاتنا». لم أعترض فقد كنت مبهورا وأنا أرى الجمال فى العمارة الإسلامية ومغتاظا أننى أشاهدها فى أوروبا، وأنا أعيش العمارة الأوربية فى وسط مدينة القاهرة. كان على الخديوى إسماعيل أن يزور الأندلس قبل قراراته الغبية بتقليد العمارة الباريسية.

انتهت جولتنا فى شارع المنصور. وودعنى مانويل وتوجهت أنا لتناول العشاء فى أحد مقاهى وسط المدينة. بمجرد وصولى بدأت مباراة بين فريقى برشلونة وخيتافى فى الدورى الإسبانى، وبدأ جمهور كبير فى الهجوم على المقهى. جلس أمامى مباشرة رجل يرتدى حلة سوداء وقميصا أبيض مطرزا ببابيون أحمر، وفى الصديرى الرمادى علق ساعة ذهبية تتدلى سلسلتها إلى ما تحت حزام من جلد الثعبان تمنطق به بكل فخر. كان يحتضن راديو لأنه يفضل تعليق هذا المذيع عن المتعصب على حد قوله الذى يعلق فى التليفزيون. وبدأ يصرخ مع الجميع على كل كرة، وبدأت سلسلة من الشتائم بالأم والأب توجه إلى الحكم.

وعندما هدأ الصراخ الهستيرى فى استراحة بين الشوطين، تذكرت مدرسى القديم فقررت أن أسأل عن ابن رشد فى مدينته. ولكن لم يكن أحد سمع عنه فى قرطبة.

خالد الخميسي  كاتب مصري