تعتقد الأغلبية أن سارتر هو الكاهن الأكبر للفلسفة الوجودية، ولكن في الحقيقه أن الأب الروحي لهذه الفلسفة هو كيركجارد الدنماركي الذي ولد عام 1813، ودرس اللاهوت المسيحي لكنه لم يصبح كاهنًا في الكنيسة. قدم كيركجارد، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كتابات منتظمة عن أزمة الإنسان في الوجود ونشرها تحت أسماء مستعارة، ولم يعرف العالم عن أفكاره الفلسفية إلا بعد أن تمت ترجمة مقالاته من الدنماركية إلى اللغة الألمانية علي يد الفيلسوف مارتن هايدجر.
كانت كتابات كيركجارد ثورة على فلسفة ديكارت ومنهجه العقلاني والاعتماد على العقل في إثبات كل شيء، واستبداله باستخدم الشعور والإلهام لإدراك الحقيقة. إذن، ركزت فلسفته على مفاهيم الإرادة الحرة، والتعبير عن الذات، وأن إدراك الواقع يحتاج إلى معاناة، وأن الوجود الإنساني في جوهره هو وجود فردي يعاني فيه الإنسان من القلق.
كما تمرد كيركجارد علي جدلية هيجل ورفض أن الوجود يقوم على التناقض وأن التقدم يتحقق من خلال الجدلية الديالكتيكية. وكان يعتقد أن تناقضات الحياة ليس لها حل، وأن القلق واليأس أمران لا مفر منهما، وأن الوجود هو صراع مستمر بين الخير والشر، وأن مصدر القلق في حياة الإنسان هو اغترابه عن الله، ولكن هناك لحظات من السكون الإلهي تنتشل الإنسان من هاوية اليأس وتعطيه سكينة النائم في حضن الله. لكن هذا الشعور بالطمأنينة مؤقت وسرعان ما يتلاشى ليتجدد إحساس الإنسان بالقلق ومأساة الوجود.
• • •
تناقضت الوجودية الدينية لكيركجارد مع وجودية جان بول سارتر الذي قدم جوهر أفكاره في كتابه الهام "الوجود والعدم" عام 1943، الذي تضمن أن حرية الإنسان تحدد موقفه من خلال الاختيار الحر، ولا يوجد تصميم ثابت لما يجب أن يكون عليه الإنسان، ولا توجد قوة خارجية تعطي هدفاً للإنسان،
واستطاع أن يكون رائداً في الجمع بين الوجودية والماركسية، وربط الحرية الفردية بقوى التاريخ، كما رفض فلسفة كيركجارد في التعامل مع عبثية الوجود من خلال الإيمان بالله.
هكذا رفض سارتر ومن قبله فلاسفة العقلانية مثل ديكارت وكانط وفيورباخ فلسفة كيركجارد وإيمانه بوجود قوة باطنية مختبئة في أعماق النفس البشرية، بل اعتبروا ذلك خرافة رومانسية، وأنه لا توجد أسرار في الحياة لا يمكن استكشافها بالعقل أو إثباتها بالمنطق. وفي مجال الفلسفة العقلانية لا بد من أن نذكر دور الفيلسوف الأندلسي العظيم ابن رشد وأفكاره التقدمية التي ساهمت بشكل كبير في تأسيس الفلسفة العقلانية الأوروبية، فقد كان من رواد الدعوة إلي استخدام العقل في فهم النص وفي الحوار الإيجابي بين الناس، ويعود للدكتور مراد وهبة، أحد أهم العقول الفلسفية في العصر الحديث، الفضل في إحياء فلسفة ابن رشد في مصر والعالم العربي، وقد وصفها بأنها أداة لجسر الهوة بين الغرب والمجتمعات العربية.
لا شك أن افكار ابن رشد أثرت علي رواد الفلسفة العقلانية وعلي رأسهم ديكارت في القرن السابع عشر الذي رفض كل ما يجافي العقل والمنطق واشتهر بعبارته الخطيرة "أنا أفكر إذن فأنا موجود"، وكذلك إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر الذي يعتبر أبو التنوير وفلسفة الحداثة في أوروبا، الذي أكد في كتاباته علي أهمية العقل وجوهريته في الوجود، وأن التنوير هو أن يفكر الإنسان بشكل مستقل دون تأثير من السلطة أو العقيدة، وأن العقل هو المصدر النهائي للأخلاق. كما أكد علي أهمية العقل الفيلسوف الألماني فيورباخ في القرن التاسع عشر قائلاً "إن قوة الفكر هي نور المعرفة، وقوة العقل والإرادة هي كمال الإنسان".
• • •
أثبت العلم الحديث مصداقية الفلسفة العقلانية التي رفضت وجود قوة باطنية، وأوضحت أن العقل يشكل فكر الإنسان ويسيطر علي سلوكه ومشاعره، وكانت هذه الأفكار رؤية تقدمية بعيدة النظر، تم ابتكارها رغم عدم المعرفة بكيفية عمل المخ ومواصفاته التشريحية والوظيفية. حاليا كشف التقدم العلمي أسرار المخ وتم اكتشاف مراكز المخ المسئولة عن تصرفات الإنسان وتفاعله مع المؤثرات الخارجية بواسطة التصوير الوظيفي للمخ بأجهزة الرنين المغناطيسي، وكذلك من خلال تسجيل النشاط الكهربائي للمخ بأجهزة دقيقة، وتعتبر دراسة وظائف المخ حاليا من أهم اهتمامات البحث العلمي الحديث.
كما أوضح العلم الحديث أن حرية الإرادة والاختيار في الفلسفة الوجودية هي وهم، وأن ما يبدو أنه اختيارات حرة يتم في الوقع تحت تأثيرات بيولوجية تشمل الجينات والهرمونات، بالإضافة إلي تأثير التجارب السابقة والمعلومات المخزنة في دهاليز وسراديب المخ الخفية ولا يدركها وعي الإنسان عند نقطة اتخاذ القرار، ويسيطر العقل اللاواعي علي معظم تصرفات الإنسان اليومية وردود أفعاله السريعة. ومع التدريب يتحكم العقل اللاواعي علي ممارسة المهارات الخاصة التي يتم اكتسابها في مختلف المجالات، بما في ذلك الرياضة، وعزف الموسيقى، وممارسة التأمل، ويظهر دور العقل الواعي بشكل أساسي في التفاعل مع أي حدث غير متوقع.
ومن المهم أيضا توضيح أن إدراك البشر بالواقع المحيط بهم أمر نسبي ويختلف من شخص إلي آخر، وما ندركه بالعين ما هو إلا نموذج خاص بكل إنسان يتم خلقه بواسطة المخ وقد يختلف هذا النموذج لنفس مجال الرؤية من شخص إلي آخر، فالواقع المرئي هو ما يشيده المخ بمساعدة مراكز مختلفة لتكوين صورة ثلاثية الأبعاد يستطيع الإنسان أن يتعرف عليها من خلال خبرات رؤية مسبقة تنمو وتتطور منذ ولادته.
• • •
أخيرا، تم التغلب على مشكلة العلاقة بين المادة والفكر عن طريق الفلسفة العقلانية، وكذلك العلم الحديث، وقد أشار عالم الفيزياء العظيم "ستيفن هوكينج" إلي أن مخ الإنسان مصدر الأفكار والمشاعر هو جسم مادي يتكون من أعداد كبيرة من الخلايا العصبية تتعاون مع بعضها البعض من خلال شبكة تواصل معقدة، وهذه الخلايا والشبكة تتكون من ذرات مثل ذرات أي جسم مادي آخر وتخضع لقوانين الطبيعة التي لا يمكن تغييرها وهذه القوانين مجال دراسة وأبحاث علماء الفيزياء مما يجعلهم وفقا لهوكينج قادرين علي فهم وظائف المخ بمنظور طبيعته المادية. حديثا، تم طرح نظرية التجميع (assembly theory) من علماء في إسكتلندا وأمريكا توحد الفيزياء والبيولوجي لتفسير تعقيدات التطور، وتوضح أن الفيزياء والكيمياء والبيولوجي وجهات نظر مختلفة لنفس الواقع الأساسي (fundamental reality) وتعتبر هذه النظرية خطوة كبيرة نحو توحيد المادة الخاملة والحية، وتوفر طريقة جديدة للنظر إلى المادة التي يتكون منها عالمنا.
• • •
في الختام، سيستمر العلم من خلال شمولية المنهج والاثباتات التجريبية في فك ألغاز المخ- أهم عضو في جسم الإنسان ومصنع أفكاره ومشاعره.