أخذت هوية مصر بعدًا مركبًا بعد ثورة 1919 عبر عنه تمثال نهضة مصر فكأنما هى تستعين بعظمة الماضى فى نهضة الحاضر، جاء تمثال أبو الهول من الماضى البعيد، ليستنهض الحاضر، وقد عبر سعد زغلول عن هذا الأمر فى رسالة لمحمود مختار مؤرخة فى 6 مايو 1920م نشرها الدكتور عماد أبو غازى.
كان نجيب محفوظ علامة أخرى على استلهام الماضى القديم الذى قدمه علم المصريات للمصريين بأمجاده فى فى حقل الرواية الأدبية، فكانت روايته الأولى (عبث الأقدار) التى كتبها بين (1935 ــ 1936) وصدرت فى 1939م تعد بحق بداية للرواية التاريخية المصرية، ثم تلتها رادوبيس التى كتبها بين (1936 ــ 1937) وصدرت عام 1943م، و(كفاح طيبة) التى كتبها ما بين (1937 ــ 1938) ونشرها عام 1944، كانت هذه الروايات نُشرت مسلسلة أولا. كان إدراك نجيب محفوظ لمصر فى ثوبها القديم الجديد هو ما جعله يصيغ أدبا يربط ماضى المصريين بحاضرهم.
لقد أخذت الدراسات الأثرية الوطنية منحى تصاعديا بعد ثورة 1919م، فأعيد افتتاح مدرسة الآثار العليا فى المدرسة الخديوية، وافتتحت كلية الآداب فى جامعة فؤاد الأول قسما للآثار يدرس الآثار المصرية والآثار الإسلامية، ذلك بعد ضم الجامعة الأهلية للحكومة المصرية عام 1925، لتخرج جيلًا من الأثريين الرواد. وتحول القسم إلى معهد للأثار ملحق بكلية الآداب، يمنح درجة الليسانس الممتازة بعد دراسة مدتها 3 سنوات، ثم فى عام 1954 عاد المعهد إلى قسمين فى كلية الآداب.
برز فى هذه المرحلة الدكتور عبد المحسن بكير فى اللغة المصرية القديمة وألف كتاب «قواعد اللغة المصرية القديمة»، وصدر أربع مرات كان آخرها سنة 1982. كما برز إبراهيم رزقانة (1912 ــ 1997) فى دراسات ما قبل عصر الأسرات. فى هذا الجيل برز الدكتور سليم حسن وهو علامة فارقة، بدأ حياته مدرسا بعد تخرجه فى مدرسة الآثار، ثم جاءت الفرصة المناسبة إثر 1919 م، إذ استغل وزير الأشغال شفيق باشا فرصة تعيين فرنسيين أمينيين بالمتحف المصرى ليشترط تعيين مصريين أمنيين مساعدين لهم، وتقدم كل من سليم حسن ومحمود حمزة، ورغم التحاقهما بالمتحف إلا أن إداراته لم تتح لهما أداء دورهما كما يجب، بيد أنهما ثابرا واستمرا، إلى أن ابتعث سليم حسن إلى المعهد الكاثوليكى فى جامعة باريس 1922 م ليحصل على دبلوم فى اللغات الشرقية وآخر فى تاريخ الديانات وثالث فى اللغات القديمة، ثم عاد فى 1927 م، ليلتحق بالمتحف المصرى لكن فى المكتبة. وفى العام 1928م عين بالجامعة المصرية، ونال درجة الدكتوراة من جامعة فيينا عام 1935م، وعين فى 1936 وكيلا لمصلحة الآثار، وكان أول مصرى يشغل هذا المنصب لكنه أُجبر على الاستقالة عام 1940 م، فعكف على التأليف والتدريس فى كلية الآداب جامعة عين شمس، توفى فى 1961م. وكان من بين مؤلفاته أول موسوعة فى تاريخ مصر القديمة من 16 مجلدًا بدأ أول جزء فى 1940 م وانتهى من آخر جزء فى 1960 م، وهو عمل لم يتكرر حتى الآن.
انتهت سيطرة الأجانب على مصلحة الآثار مع ثورة يوليو 1952م، فعين مصطفى عامر مديرا لمصلحة الآثار 1953 م، وأدخل إصلاحات هيكلية فى مصلحة الآثار مكنت المصريين من العمل الأثرى، غير أن القيود التى فرضت على تحويل العملة حتى قرب نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين أدت إلى ندرة المراجع الأجنبية فى المصريات، لكن كان هناك استثناء قامت به الدكتورة ضياء أبوغازي، إذ استطاعت أن تتبادل حولية الآثار المصرية عبر توليها مكتبة المتحف المصرى بغيرها من الحوليات والكتب فاستمرت مكتبة المتحف فى أداء دورها.
خلال هذه الحقبة برز جيل من علماء الآثار و منهم:
عبد العزيز صالح: جسد نضج المدرسة المصرية فى علم المصريات، وتجلى ذلك فى إصراره على كتابة مؤلفاته باللغة العربية حاملة لأفكار ورؤى جديدة، ليؤسس مرحلة جديدة، جعلته يطلق عبر عضويته فى مجمع اللغة العربية دراسة حول المشترك بين اللغة العربية واللغة المصرية القديمة، ومن مؤلفاته: التربية والتعليم فى مصر القديمة، حضارة مصر القديمة وأثارها: وهو موسوعة لم ينشر منها سوى الجزء الأول.
حسن الباشا: يعد عالمًا موسوعيًا استطاع أن يربط العديد من التخصصات ببعضها، وأسس مدرسة تقوم على تأصيل العناصر الفنية وتحليلها. وقد أخذ منحى التأصيل عنده بُعدا مهما عندما أصدر موسوعته «الألقاب الإسلامية فى التاريخ والوثائق والآثار»، كما عمل على تشريح الوظائف المتعلقة بالآثار الإسلامية عندما وضع كتابه «الفنون والوظائف على الآثار الإسلامية». وانصرف بعد ذلك إلى البحث فى مسألة المنهج حيث ابتدع منهجا جديدا فى دراسة تصاوير المخطوطات من خلال كتابه «التصوير الإسلامى فى العصور الوسطى» ليؤسس بذلك تيارا مصريا وعربيا فى دراسات تصاوير المخطوطات، كانت كتبه فى تاريخ الفن عميقة، توجه بإصدار موسوعة للعمارة والفنون الإسلامية ضمت 200 بحث باللغة العربية و50 بحثا باللغة الإنجليزية.
أدت كل الجهود السابقة إلى بلورة حركة علمية وطنية فى مصر تميزت بالرصانة والإنتاج الغزير، وتبلور علم الآثار فى عدة علوم وتخصصات فرعية، فقاد هذا إلى تأسيس كلية الآثار فى جامعة القاهرة علم 1970 م لتبدأ الدراسة بها عام 1974 م بقسمين الآثار المصرية والآثار الإسلامية، ثم أضيف لهما قسم للترميم عام 1977 م وقسم للأثار اليونانية الرومانية عام 2013 م فضلا عن مساقات دراسية تتوج بدبلومات متخصصة أبرزها دبلوم ما قبل التاريخ.
لكن البحث فى الآثار فى حقيقة الأمر لا ينحصر فى أقسام علم الآثار، فقسم الجيولوجيا فى كليتى العلوم فى جامعتى القاهرة والمنصورة على سبيل المثال أنتجا أبحاثا قيمة فى حقبة ما قبل التاريخ، كما أن قسم الأنثربولوجيا بجامعة الإسكندرية أسس به الدكتور أحمد أبوزيد دراسات بينية بين علم الآثار والأنثربولوجيا. وبالرغم من جهود بذلت فى دراسة عصور ما قبل التاريخ فى كليات العلوم فى مصر والتى أدت إلى اكتشاف بقايا ديناصورات فى الصحراء الغربية وبقايا أخرى فى الفيوم، وافتتاح برنامج قوى لآثار ما قبل التاريخ إلا أن هذه الحقبة ما زالت غائبة عن الوعى الوطنى المصرى.
تتجه الأجيال الجديدة كما السابقة فى علم المصريات إلى النشر بلغات أجنبية خاصة: الإنجليزية ــ الفرنسية ــ الألمانية، سعيا للحصول على اعتراف دولى بها وبقدراتها، فى الوقت الذى لا يوجد اهتمام بالنشر باللغة العربية فى هذا الحقل، فبالرغم من مرور أكثر من قرنين على علم المصريات إلا أنه لم يصبح مصريا بعد.
إن ما سبق يشير إلى فجوة بين الجديد فى علم المصريات وما يعرفه المصريون من هذا العلم، فاكتشافات البعثة الألمانية فى أبيدوس والتى تعيد كتابة عصر ما قبل الأسرات وبدايات الكتابة فى مصر القديمة ما زالت مجهولة لمعظم المصريين، كما أن أسطورة اختفاء جيش الاحتلال الفارسى بقيادة الملك قمبيز فى نهاية عصر الفراعنة باتت غير معروفة إذ أُبيد جيش قمبيز على يد الملك بتويا ستيس الرابع فى حركة تحرر وطنى بدأت من واحات مصر الغربية. وتعتبر العديد من الدراسات الحقبة البطليمة حقبة ملحقة بالاحتلال الرومانى والبيزنطى لمصر، فى حين أنها حقبة تعد امتدادًا للعصور المصرية القديمة. وتدفعنا هذه الخلاصة إلى الانتباه إلى تأثير المركزية الأوروبية على علم المصريات القديم وبالتالى ضرورة أخذ الحذر من نتائج بعض الدراسات الأسيرة لهذه المركزية.
على جانب آخر فى مجال الآثار الإسلامية بالرغم مما نشر منها بالعربية وغطى مجالات عديدة إلا أن جهود العلماء المصريين فى هذا الحقل البحثى غير معروفة دوليا.
لقد شهد علم الآثار فى العقود الثلاثة الأخيرة تقدما مذهلا إذ إن علم الآثار فى عصرنا يقوم على الحفاظ على المكتشفات التى تعود إلى الماضى السحيق، وكذلك الماضى القريب بالكشف عنها وحفظها، لكن حدوده لا تقف عند ذلك، بل تتجاوزه إلى محاولة فهم الإنسان وتطور المعرفة الإنسانية، فعالم الآثار يضع افتراضات وتساؤلات ليصل إلى رؤية لما تم الكشف عنه، ومن هنا تأتى الآثار الناتجة عن هذا العلم.. كيف كنا؟ وكيف نحن الآن؟ بين هذين السؤالين بون شاسع، سواء من حيث الزمن أو المعرفة أو التطور الذى لحق بالإنسانية، ويكمن دور علم الآثار فى سد الفجوة بين التساؤلين؟.
إن علم الآثار كعلم لم يأخذ حقه بعد فى الجامعات المصرية، فماهية هذا العلم وفلسفته أساسيين لقيام نظرية مصرية فى مجال الآثار، كما أن دراسات تاريخ علم الآثار وعلوم الآثار فى مصر ما زالت محدودة، وإذا كان عدد من المصريين أجروا دراسات رائدة فى هذا المجال مثل دراسات فايزة هيكل، وعمرو عمر، ودراسة وائل الدسوقى فى تاريخ علم المصريات، كما أصدرت الدكتورة مونيكا حنا كتابا رائعا ورائدا عن مستقبل علم المصريات.
كما أن علينا التفكير وإعادة النظر فى كتاب تقى الدين أحمد بن على المقريزى (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) الذى يعد بمنظور علم الآثار المعاصر دراسة أثرية متكاملة، سابقة لعصرها بكثير.