الجيش والرئاسة نصف هدنة - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 8:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجيش والرئاسة نصف هدنة

نشر فى : الإثنين 15 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 15 أبريل 2013 - 8:00 ص

للأزمة مقدماتها وللهدنة حساباتها. المقدمات تلخصها واقعتان.. الأولى، استبقت مباشرة جولة الحسم فى الانتخابات الرئاسية.. وفى خلفيتها استعراضات قوة وهتافات وظفتها الجماعة ضد «حكم العسكر» فى المقايضات الأخيرة لحصد السلطة السياسية. بدا «العسكرى» مأزوما، الضغوط الأمريكية تلاحقه وتظاهرات الشوارع تمعن فى إهانته، وفى مؤتمر حضره نحو (٨٠٠) ضابط بإحدى القواعد العسكرية بمنطقة قناة السويس تحدث أحد القادة الكبار مستفيضا عن الأزمة السياسية وتحولاتها والضغوط الأمريكية وحقيقتها ومستقبل المؤسسة العسكرية بعد انتقال السلطة إلى رئيس منتخب.

 

حاول بقدر ما يستطيع أن يهدئ فوران الغضب الذى انفجر أمامه بتساؤلاته القلقة عن الحاضر وإهاناته والمستقبل واحتمالاته، وخطر له أن يسأل الضباط الغاضبين: «هل أحدا هنا يطلب الصدام؟»، وكانت المفاجأة أن الأيادى جميعها ارتفعت مرة واحدة. بصورة أو أخرى جرى تطويق اندفاعات الغضب لكن أسبابه ظلت ماثلة.

 

والثانية، لحقت مباشرة إطاحة المشير «حسين طنطاوى» والفريق «سامى عنان»، وكانت تظاهرات مماثلة للجماعة حول قصر «الاتحادية» تحتفل بما جرى، والشعور بالإهانة يضغط على أعصاب الجيش.. وفى مؤتمر آخر شارك فيه نحو (١٢٠٠) ضابط فى نادى الجلاء تحدث وزير الدفاع الجديد «عبدالفتاح السيسى»، الذى رقى للتو فريقا أول، شارحا التطورات المفاجئة ومتعهدا بالحفاظ على الجيش وسلامته وأن يعود إلى مهامه الطبيعية فى حفظ الأمن القومى، لكنه رأى من على منصته دموعا فى عيون الضباط، وكان ذلك على ما روى لى بنفسه فوق طاقته على الاحتمال، فالتغيير كان ضروريا لسلامة القوات المسلحة فى ظروف جديدة، و«المجلس العسكرى» تحلل من داخله، لكن الالتباسات أفضت إلى شكوك وتساؤلات عما إذا كان اختراقا كبيرا جرى. ورغم أن الضباط الغاضبين فى الواقعة الأولى حملوا «المجلس العسكرى» مسئولية تدهور صورة الجيش فى مجتمعه، وكما لم يحدث من قبل إلا أن الروح العامة فى الجيش استشعرت إهانة إضافية بالطريقة التى أطيح بها المشير «طنطاوى»، واستقرت «عقدة الأب» عند القادة العسكريين الجدد، وهو ما تجده متواترا فى تصريحات أطلقوها تؤكد المعنى ودلالته.

 

فى قصة الدكتور «محمد مرسى» وقيادات الجيش أزمة ثقة مستحكمة فى توجهات الجماعة التى ينتسب إليها، هو لا يكف عن الإشارة إلى أنه «القائد الأعلى للقوات المسلحة»، وأنه ليست هناك أزمة بين الرئاسة والجيش، وأن الأمور مستتبة ولا تدعو إلى قلق، وهو لا يكف عن القول إنه رئيس لكل المصريين، فى الحالة الأولى الكلام بذاته تعبير عن أزمة.. فالعلاقات المستقرة لا تستدعى التزيد فى إثباتها.. وفى الحالة الثانية الكلام بلا مصداقية تؤكده أو تصرفات تزكيه. فى الحالتين نحن أمام أزمة رئيس تآكلت شرعيته وصورته أسيرة جماعته وفشله يسبقه إلى مؤسسات القوة.

 

فى العلاقة المركبة بين الرجلين «مرسى» و«السيسى» فإن الأزمة تتجاوزهما معا، لا الأول هو القضية ولا الثانى هو العقدة. الأول وصفه العسكريون عند تقلده السلطة بأنه «رجل طيب»، خاطب المشير فى أول لقاء بينهما بعد إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية: «أنت أخويا الكبير».. لكن «الرجل الطيب» أطاح «الأخ الكبير» بعد وقت وجيز للغاية.. والثانى من موقعه مديرا للمخابرات الحربية حاور أكثر من غيره قيادات الجماعة ومن بينهم المرشد العام نفسه ونائبه القوى «خيرت الشاطر» ورئيس مجلس الشعب السابق «سعد الكتاتنى» ورئيس الجمهورية الحالى «محمد مرسى»، وهو رجل متدين لكنه لا ينتمى إلى عالم الجماعة ولا أفكارها، مثله الأعلى «جمال عبدالناصر» شأن أى ضابط وطنى آخر، وقيادات الجماعة تعلم ذلك بيقين من حواراتها معه، لكن بعض كوادرها حاولت أن تعطى انطباعا آخر بأنه من الجماعة وينتسب إليها. كانت مشكلة «السيسى» فى أيامه الأولى على مقعد وزير الدفاع أن يثبت أولا أمام الجيش أن ولاءه الأول والأخير للشعب والوطن.. وأن يثبت ثانيا أمام الشعب أن جيشه يستحق إعادة الثقة فيه بعد أن عاد إلى مهامه الطبيعية فى حفظ الأمن القومى. الفكرة التى ألحت عليه أن المشير رغم أية انتقادات حافظ على الجيش وسلامته فى ظروف قاسية، وأنه يتوجب فى ظروف أخرى أن يؤدى الدور ذاته. بمرور الوقت أخذ الجيش يستعيد ثقته فى نفسه وثقة الشعب فيه وتجلى ذلك فى حوادث بورسعيد، لكنه جرى توظيف اسمه لإجبار سائقى قطارات السكك الحديدية على إنهاء إضرابهم باستخدام قانون التعبئة العامة، فى الحالتين حضر الجيش، مرة بصورة إيجابية ومرة أخرى بصورة مناقضة طرحت تساؤلات حول حقيقة ما يجرى فى العلاقة المركبة بين «الاتحادية» و«كوبرى القبة».. وفجأة تصدرت المشهد المرتبك «تسريبات» نشرتها صحيفة «الجارديان» البريطانية لنصوص من تقارير لجنة لتقصى الحقائق أودعت نسختها فى النيابة العامة تتهم الجيش بالضلوع فى وقائع تعذيب وحالات غياب قسرى وإصدار أوامر قتل.

 

هناك فارق جوهرى بين قضيتين.. الأولى أن الجرائم لا تسقط بالتقادم، وأن الحساب واجب وضرورى.. وهذه مسألة عدالة تسرى قواعدها الصارمة على كل الانتهاكات التى جرت على عهد «المجلس العسكرى» أو عهد «الحكم الحالى».. والثانية أن تستخدم التسريبات لأهداف أخرى لا تدخل فيها فكرة العدالة والانتصاف للضحايا.. وهذه مسألة تشهير بلا جدية فى تحقيق يكشف الحقائق ويدين الجناة.

 

أزمة «الوثيقة المسربة» دخلت فى تراكمات أزمة ثقة بين الجانبين وتأويلات لرسائل تبدت فيها اشباح الصدام، وبدا «مرسى» حريصا على لقاء عاجل مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. وهو اجتماع لا مثيل له فى التاريخ السياسى العسكرى المصرى.

 

كان الحديث صريحا والاتهامات حاضرة فى مداخلات العسكريين، وبشكل أو آخر فإن كل طرف حصد ما طلب.. «مرسى» توصل إلى شبه هدنة، بطبيعتها مؤقتة، تضمن تخفيض مستويات التوتر مع المؤسسة العسكرية، وهى توترات تزكيها عوامل الفشل الذريع فى إدارة الأزمات المتفاقمة، هو يدرك أن تدخل الجيش مسألة صعبة ومعقدة تحول دونها اعتبارات داخلية ودولية، لكن كل شىء يظل محتملا فى ظل أوضاع مرشحة للانفجار.. والجيش حصد بالمقابل أربع جوائز.. الأولى ما يشبه الاعتذار الرسمى عن تجاوزات ارتكبتها الجماعة بحقه على شبكة التواصل الاجتماعى أو فى تصريحات منفلتة لبعض قادتها، وتعهد «مرسى» أنه لن يسمح بالمس بالجيش ينصرف إلى جماعته قبل أى أحد آخر.. والثانية حق نقض أية مشروعات فى محور تنمية قناة السويس، وبصياغة «مرسى»: «حفظ المساحات الضرورية فى أعمال الدفاع والتعبئة فى هذا المحور طبقا لما تقرر قيادة القوات المسلحة».. والثالثة التأكيد على وحدة التراب المصرى، وهذه مسألة جوهرية وحاسمة فى قضية الأمن القومى، وألا أحد بوسعه أن يتخلى عن مصرية «حلايب وشلاتين»، الرئاسة نفت ما نسبته إليها قيادات سودانية فى هذه القضية الحساسة، لكن تعهدها فى نص رسمى بعد الاجتماع الاستثنائى له ما بعده.. والرابعة تأكيد دور الجيش فى حفظ أمن سيناء بالوسائل التى يراها ضرورية بما فى ذلك هدم الأنفاق، وقد بدأ فى اليوم التالى نصب كمائن مشتركة فى سيناء بين الجيش والداخلية بأسلحة ثقيلة.

 

فى إيحاءات الصور التى التقطت بعد الاجتماع ووقائعه رسائل أخرى، فقد بدا الرئيس مشدودا كأنه فى صف عسكرى وهو يقف بين القادة العسكريين بينما تحدث وزير الدفاع بثقة بالغة فى أول إطلالة له على الرأى العام.. وهى صورة تخالف ما جرى نشره من قبل عن لقاءات جمعت الرجلين، والفارق فى إيحاءات الصور تلخصه كلمة واحدة: «الفشل».

 

إنها هدنة إذن، لكنها بطبيعتها مؤقتة إلى أن تستقيم الأحوال السياسية والاقتصادية فى مصر.. هدنة اضطرارية فكلا الطرفين يدرك أن هناك طلبا دوليا بالتهدئة.

 

حسابات البنتاجون الأمريكى أقرب إلى الجيش المصرى، والعلاقات داخلة فى التسليح والمناورات المشتركة، فالأخير «يحمى العملية الديمقراطية»، وهو «عامل استقرار» على ما قال الجنرال «مارتن ديمبسى» رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية. التعبير الأدق «عامل توازن»، والتوازن قضية أمريكية تتطلبها مصالحها، غير أن هناك حسابات أخرى فى البيت الأبيض يديرها مجلس الأمن القومى. الرهان على الجماعة فيه مقايضة كبرى.. اتباع الاستراتيجية الأمريكية فى الإقليم داخلا فيها تسويغ تسويات محتملة للقضية الفلسطينية وترتيبات ما بعد «بشار الأسد» مقابل الدعم السياسى والاقتصادى للبقاء فى السلطة.

 

الحسابات الأمريكية المعقدة ترفع الغطاء عن انقلابين، الأول أن ينقلب «مرسى» على قيادة الجيش وأن تهيمن عليه الجماعة.. وهو يستدعى صداما مؤكدا نتائجه وخيمة.. والثانى أن ينقلب الجيش على الجماعة والرجل الذى يمثلها فى القصر الرئاسى، وهو احتمال كامن فى التحولات لكن تعترضه حسابات معقدة، من الناحية الداخلية دور الجيش حاسم فى الحيلولة دون الفوضى ومستنقعاتها الدموية.. والسؤال هنا: هل ينتظر العسكريون الفوضى أم يسبقونها؟.. انتظار الفوضى ربما يفضى إلى دخول الجيش نفسه فى الفوضى طرفا لا حكما.. ومن الناحية الدولية فإنه يصعب تقبل مثل هذا التدخل، وإذا ما جرى فإنه مؤقت، ومن الصعب للغاية تصور أن يحكم الجيش بصورة مباشرة مرة أخرى.

 

ما هو بطبيعته مؤقت موصول بأزمات مجتمعه، وقد طلبت المفوضة الأوروبية «كاترين أشتون» الرئيس «مرسى» أن يسعى لتهدئة مع معارضيه، ومستشاروها الذين أعدوا أوراقا حملتها إلى الاجتماعات مع الرئاسة والمعارضة وصفوا مطالب الأخيرة بأنها معقولة وتوفر الحد الأدنى لتفاهمات وطنية واسعة.. «مرسى» لم يرد حسبما أبلغت «أشتون» المعارضين، مؤكدة أن تحركاتها بتنسيق كامل مع الخارجية الأمريكية ووزيرها «جون كيرى». المعنى أن هناك طلبا دوليا بهدنة سياسية أخرى تسمح بشىء من الاستقرار والأمن فى أكبر دولة عربية قبل توقيع اتفاقية صندوق النقد الدولى. نصف الهدنة الآخر يقتضى توافقا على حكومة كفاءات واختيارا لنائب عام جديد يرشحه المجلس الأعلى للقضاء وإعادة النظر فى قانون انتخابات مجلس النواب بما يضمن نزاهتها، الهدنة السياسية تضمن الهدنة مع المؤسسة العسكرية، كأنهما نصفان يتكاملان للانتقال إلى وضع جديد يستبعد فى وقت واحد هيمنة الجماعة على مفاصل الدولة وتدخل الجيش فى الحياة السياسية.

 

معضلة الجماعة أن التوافق يفضى إلى خسارة مشروع التمكين، وأن التمكين نفسه قد يفضى إلى خسارة السلطة كلها، فالهدنات لها ضروراتها ومعاندة الضرورات فيها النهايات.