مع التكرار والاستعادة ومحاولات التركيز؛ مل الجالسون الكلام، وراح نفر منهم يعبث في ما تصل إليه يداه، وينظر إلى ساعة المحمول أو ساعة اليد إن كان لا يزال يرتدي واحدة. أخيرا همس رجل لزميل يحتل المقعد الجلدي المجاور: قفلت دماغي ولم أعد قادرا على استيعاب المزيد؛ أليست هناك استراحة؟
• • •
القفلة في قواميس اللغة العربية هى المرة من الفعل قفل أي أغلق. قفل الباب أي سكه، وقفل التلفاز أو مصدر الضوء أي قطع عنه الكهرباء وأطفأه، أما قفل الرجل لبيته فبمعنى عاد إليه، وإن كان المرء على سفر وقفل منه؛ فقد رجع لموطنه ومستقره. إذا قيل قَفَل الجلد فالقصد أنه تيبس وجَمُد، وإذا قفل فلان حسابه في البنك، فقد أوقف التعامل عليه؛ وما أكثر الدوافع وما أسخف بعضها.
• • •
قفلة تصيب الدائرة الكهربائية قد تتطور إلى حدث جلل. تصحبها فرقعة مخيفة، أو تتصاعد رائحة كريهة، وتُرى الأدخنة في فضاء المكان. كثّف صناع الدراما استخدامهم لهذه القفلة ولتعبير "الماس الكهربائي" تحديدا كحدث مشوق مثير؛ إذ يوحي في ثقافتنا المعاصرة ذات التجارب والخبرات الأليمة، بما هو أبعد من واقعة قدرية. ماس يعقبه حريق في مؤسسة تستعد لجرد محتوياتها المسلوبة، وآخر يلتهم كيانا منافسا ويجعله أثرا بعد عين؛ كلاهما قد يكون بفعل فاعل، لكن القفلة المشئومة في هذه الحال متهم أبدي، ونتائجها على الأغلب مضمونة.
• • •
إذا قفل المرء على بابه؛ فالمعنى أنه احتفظ بتفاصيل حياته وأسراره، وحماها من التداول على ألسنة الآخرين. كفى نفسه شر القيل والقال وبقى بعيدا عن وجع الرأس، وما أكثر المتربصين بكلمة يلوكونها في أفواههم، وبإيماءة يصنعون منها حكاية مسلية، والحق أن هذا الذي ينأى عن التورط في النمائم؛ إنما يتحول إلى مصدر استفزاز للمحيطين به، ولا يسلم من وصمة الغرور والتعالي.
• • •
الشخص القفل بكسر القاف هو بليد الذهن، قليل التجربة والحيلة؛ لا يدرك ما يدور في فلكه بسهولة ولا يستوعب ما يجري. يفضل الناس في العادة أن يتركوه لحاله؛ ففي محاولة التواصل معه إراقة للوقت وإزهاق للجهد.
• • •
إذا أصر الواحد على موقفه وتشبث به رغم المدركات التي ترجح تراجعه؛ قيل أنه ركب رأسه وقفل على ما فيه، والقصد أنه ثبت على رأيه ولا يُرجى من بعد أن يتزعزع إصراره أو يلين.
• • •
كثيرا ما تحدث قفلة في طريق؛ فتتشابك العربات ويستعصى مرورها. لم تعد الأسباب عصية على التنبؤ والتخمين؛ فطريق تعطل السير فيه وزينه على الجانبين أفراد في حلل كاملة ونظارات سوداء؛ إنما يتحضر لاستقبال موكب أحد الوجهاء أو المهمين، وطريق بطأت حركته لما دون السلحفاة وراح السائقون يميلون نحو حارة ويتركون أخرى؛ قد ابتُلى بحادث وبات ينتظر الإخلاء ونقل المصابين، وطريق ثالث تناثر عليه أشخاص يشيحون بأيديهم للقادمين كي يحولوا اتجاهاتهم بعيدا أو يسلكوا سككا فرعية؛ قد أصابته غالب الظن كارثة طبيعية فغصّ بمياه الأمطار، أو هبطت أرضه تحت وطأة التسرع في الإنجاز أو تقرر إغلاق نهايته دون تنبيه للسائرين.
• • •
حين يجف منبع التمويل، فيتعذر الحصول منه إلا على قطرات شحيحة؛ يصرخ المتضرر متوسلا لمن أقفل المحبس ومنع السيل من الانهمار. إقفال المحبس هنا يعني إيقاف الإمداد بالأموال، قُدرت بعشرات الجنيهات أو المليارات. التبعات سيئة على من اعتاد الأخذ دون الرد؛ إذ يغدو الأمر كما لو تشققت الأرض وأجدبت، فإن زالت القفلة وانفتح المحبس، عادت إليها الروح.
• • •
إذا قال واحد بالتعبير العامي الأصيل إنه قفل من صديق أو زميل؛ فالقصد أن ثمة ما وقع فأفسد علاقته به وبدّل مشاعره نحوه وأحاله من مقام الود إلى النفور، وربما تطور الأمر فاتخذ منه جانبا وكف عن محادثته، فإن التقيا في مكان عام تهرب من لقياه أو حتى غادر. عوامل عدة قد تتراكم لتُسفر عن مثل هذه القفلة، والحق أنها لا تحدث بين البشر فقط، فكثيرا ما يصبح المرء وقد "قَفل" من شيء كان يميل إليه، فعافه ولم يعد راغبا فيه؛ ربما كان طعاما أو مكانا أو حتى رداء. ثمة ما جرى فصد النفس عنه وأزاحه من قائمة ما يُفضل ويُشتهي. ربما اقترن بأجواء محزنة أو بأحداث مفاجئة مزعجة أو صاحبه حظ سيء. المحصلة في النهاية واحدة؛ فما كان مصدر سعادة وترحيب، قد تحول إلى مصدر رفض وعزوف.